خرافة {موت الإله} تطيح بالمؤلف والناقد هل ينتظر القارئ الرصاصة الأخيرة؟

منصة 2024/01/21
...

  عبدالأمير محسن

ما إن خرج زرادشت من مغارته الموحشة حتى تبين له أن الإله قد مات.. وأنه تم دفنه قبل أن يدخل مغارته بكثير.. وأعتقد أنه كان يعلم أن الإله ليس قيمة ترتبط بزمن محدد، لكن الأجوبة غير المتاحة للأسئلة المصيريَّة تقطع الشك بيقين فلسفي فحسب، وهذا منطق العقل الذي يرغب بالعلم قبل أن يقتنع بالمنطق! فسار في الناس يردد مقولته..

ليس الهدف من المقال استعراضاً لتاريخ النقد الأدبي بقدر إحاطته بالجانب الأخلاقي لمتطورات باتت سريعة في هذا العصر (عصر سقوط السرديات الكبرى من صفحات التاريخ).

للبدايات باب واحد سأدخل منه بفضول شديد لأنّه كان مغلقاً لألف سنة، وقد فتح قبل مئة سنة فقط لأنّ نيتشه أراد أن يتفوق على نفسه ويثبت أنّ الأخلاق التي سقطت بسبب سيطرة اللاهوتيين ردحاً طويلاً ها هي تُقتل اليوم مرة أخرى ولم يبقَ غير الاعتراف بالجريمة (جريمة قتل الرب).

 أرى أنَّ هذا الباب هو باب أخلاقي (بوجه فلسفي) فلم تكن هناك إشارة له في كتب الفلاسفة قبله، والملفت انه بعد أكثر من عقود سقطت (أو أُسقطت) هذه المقولة في الأدب بقصد النقد عند رولان بارت رائد البنيوية (وما بعدها) وكانت دلالة على وحدة النص بعيداً عن مؤلف ميت، إذ يُمنح الناقدُ السلطةَ النهائيَّة لضمان حرية المعنى بعيداً عن التأثيرات النفسيَّة والأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والتاريخيَّة، فكانت هذه أولى علامات تأثير مفاهيم نيتشه (الأخلاقية) على أدبنا الحديث..

وما أن بدأت البنيوية تعاني من علامات ما بعد الحداثة أواخر الستينات (حيث بدأت مظاهرات الطلبة في باريس ضد مركزيَّة القيم) حتى تلقف دريدا في ما بعد الحداثة فلتة نيتشه تلك بل زاوجها مع كينونة هايدجر وذهب بها لأبعد مدى مع ثنائيات فرويد الأخلاقيّة النفسيّة لينتج منها نظاما خطيرا في اتجاه تفكيكي كاد ان يكون محكمة تاريخيّة أخلاقيّة لكل النصوص التي اعتبروها بلا أب مستندين على موت الإله كفكرة مركزيّة وموت المؤلف كفكرة مساعدة..

ولأنّي لا أريد للمقال أن يكون استعراضاً لتاريخ النقد، سأختصر لأصل ما أريده في تأثير نيتشه في تغييب كل المركزيات انتهاءً بالقارئ نفسه.

 ورغم أنَّ نظرية لاحقة مثل نظرية التلقي (سنة 1960) (لهانز ياوس وإيزر) أعادت الاعتبار للقارئ ومنحته الاهتمام ليفهم ما في النص من معانٍ مهمة سواء كونه القارئ الضمني (الذي في عقل المؤلف) أم قارئا فعليا، لكنها توحي لي في خواتيمها بأن هذا القارئ بثقافته المتهيئة جيداً لاستقبال النص، عليه ان يكون أو يكاد أن يكون ناقدا بدرجة خبير..! وإلا فإنّه سيكون بعيداً عن البحث والتأويل ولا فائدة منه تقريباً لأنّ القارئ هو الذي يشارك في حلقة الإبداع الأدبي بافتراضه مكملاً لأفق السجل التطوري للإبداع وفق ظاهرة التناص التي تجعل من قارئ اليوم كاتباً في الغد.. لذلك فإنّ خطرَ موتِ الناقد هو خطرٌ مركب قد يشمل القارئ أيضا ضمن معطيات تلك النظرية..

أشير بعجالة أيضاً الى السيميائيّة التي اعتمدت العلامات اللغويَّة في التحليل الأدبي في أنّ الدال لا يكتسب قيمته إلا إذا وضع في سياق محدد من النص وعلى القارئ الذكي أن يخلق الارتباط المناسب بين الدالة ومدلولها وهي أيضا وتتطلب قارئا واعيا بالإزاحات الدلاليّة والعلامات السياقيّة، وهذا يمثل مستوىً متعاليا لقارئ مثقف (يقل حضوره في عالمنا الآن)... 

ولذلك أرى ما يتعرض له النقد من إرهاصات الموت تؤثر حتما على جمهور القرّاء بالضرورة..

إذن بات على القارئ الآن أن يكون حذراً من تغييبه هو الآخر! فكتاب موت الناقد (صدر عام 2017 عن المركز القومي للترجمة) يتحدث عن لا جدوى النقد في عالم العولمة لتوسع اتجاهات التشتت وعدم القدرة على السيطرة على الوقت بل حتى ان الناقد  ليس عليه أن يضيع الوقت في سبر أغوار النص في ظل مظاهر عديدة منها غياب أو ضعف العلاقة بين الناقد الأكاديمي وجمهوره الافتراضي في ظل انتشار النشر الالكتروني وقلة القراءة، الأمر الذي جعل كل من يقرأ يصير ناقداً على قدر مايفهم.. ولعل الديمقراطيات المفتوحة على مصاريعها في الغرب تتحكم في اللعبة لتوحي أن لا حدود للديمقراطية (رغم أنّها لعبة خفية تكيل بمكيالين لرأي من دون آخر)  فالثورة على المفاهيم المركزيّة والمتحكمة لم تنجح إلا في النقد، وفشلت فشلا ذريعا في تغيير الأنظمة السياسية القائمة على ديمقراطية التسويق الإعلامي، فهم يمنعون الرأي الآخر في مجتمعاتهم متى علا صوت المعارضة في التغيير الحقيقي. 

يتحدث الكاتب والناقد والمترجم الأردني فخري صالح عن كتاب "موت الناقد" الذي ترجمه عن الانكليزية للمؤلف البريطاني رونان ماكدونالد، وصدر لأول مرة عن دار العين عام 2014: 

(إن ما يقوله المؤلف عن اضمحلال حضور الناقد في الثقافة الغربية يصدق تماماً على حال الناقد العربي، من وجهة نظري، كوننا نعيش عصر تدفق المعلومات عبر شبكة الإنترنت وانهيار الحدود بين الحقول المعرفية المتخصصة، وشيوع ظاهرة التسليع في حياة البشر.

وهو يقدم تلخيصاً دقيقاً لتحولات النظرية النقدية في الغرب، في الوقت الذي يدعو إلى عودة نظرية القيمة "وحكم القيمة وعملية التقويم" إلى المجال النقدي، وعدم الاكتفاء بالقول "إنَّ الجمال في عين الرائي"، بحيث تتساوى الآراء ويتحول كلّ قارئ إلى ناقد، مهما تدنّت معرفته الأدبيّة والنقديّة والنظريّة.

إنَّ ماكدونالد مهتمٌّ بضرورة استعادة الناقد لدوره في المجال العام، وفي الفضاء الإعلامي والأكاديمي، كما كان يفعل في النصف الأول من القرن العشرين. 

وهو يرى أنَّ الناقد هو أوّل الذين عملوا على التقليل من دوره في المجال العام، حين رضي بالتواري في صومعته الأكاديميَّة أولاً، ثم من خلال عزل الأدب عن المجتمع بجعل النص الأدبي يكتفي بذاته مقيماً في شرنقته الداخليَّة.

حدث ذلك مع تنظيرات الشاعر والناقد البريطاني -الأميركي ت. س. إليوت، والناقد الكندي نورثروب فراي، وصولاً إلى البنيوية وما بعد البنيوية وانتهاءً بالنقد الثقافي.

فكلُّ هذه التنظيرات تعاملت مع الأدب بوصفه إما منتجاً جماليّاً مكتفياً بذاته "كما في البنيوية ونسلها"، أو بوصفه وسيلةً لشرح العمليات السياسية الاجتماعية "كما في الدراسات الثقافية".

في هذه التصوّرات وعمليات تعريف معنى الأدب، وتحديد مجاله الخصوصي أو العمومي، يختفي الأدب ويفقد خصوصيته وتواصله مع الفضاء السياسي/ الاجتماعي الذي يُنتَج ضمنه.

المشكلة في النقد العربي أكثر تعقيداً.

لا تقيم المسألة في غياب حكم القيمة فقط، بل في انهيار التعليم الأكاديمي، وغلبة التعليم الكمّي على الكيفيّ، ما ينتج أعداداً هائلة من أنصاف المتعلمين الذين يحملون شهادات ويُدرّسون في الجامعات ويرددون كالببغاوات ما يقرؤون في الترجمات العربية الضعيفة للكتب النقدية الصادرة بالفرنسية والإنجليزية.

إن بعض من كتبوا عن النقد الثقافي، أو ألفّوا كتباً "مرجعيّة" عنه، لا يفقهون معنى النقد الثقافي ولا يحسنون ترجمة مصطلحاته، أو التمييز بين مدارسه وتياراته المختلفة.

والشيء نفسه يصدق على من كتبوا عن البنيوية أو ما بعد البنيوية أو نقد ما بعد الاستعمار. 

ثمّة فوضى عارمة في الحقل النقدي العربي، وكلُّ من يحمل إجازة في الأدب يصبح ناقداً. 

نحن نعيش زمان غياب المعايير.).

اللافت أني قرأت مقالاً عن هذا الكتاب للناقد علي الفواز وجدته يكتشف المسكوت عنه في عقل المؤلف حين لمح إلى:

(وهذا بطبيعة الحال يجعل من سؤال الموت وجوديا كان أم رمزيا باعثا على جدل المغايرة والاختلاف المفهومي حول هوية «الناقد» وحول فكرة «موته» بوصفها إعلانا عن موت ممارسة ثقافية باتت تحتاج إلى التجديد، وإلى التخلّص من نمطية عقدة «الناقد المسلكي» أو «الناقد الموظف» أو «الناقد الشارح» أو «الناقد الأكاديمي/ المدرسي» وحتى «الناقد النخبوي» وهذه توصيفات تتطلب - اليوم- كثيرا من المراجعة، ليس لصناعة «ناقد» آخر، له سطوة أو سلطة المواجهة، أو مواجهة التاريخ والنص حسب، بل الحاجة إلى الناقد «الرائي» الذي يملك القدرة على صناعة الخطاب المعادي للنمط والنظام التعليمي والسلطة والمؤسسة، بما فيها «مؤسسة الأكاديميا» وعلى نحوٍ يُزيح كثيرا من الأغطية والأوهام و»الصيانات» التي تعوّدت المؤسسة «الأنجلوسكسونية» على التمترس خلفها، مقابل ذلك إعطاء صناعة النص المُضاد «مساحة للتجاوز» ووعيا بالمغايرة، واستدعاء لفاعلية الناقد القارئ، أقصد «القارئ العمدة»).

يشير الفواز ويكشف هنا عدم قدرة النقد (الأدبي) على التغيير لأسباب خارجة عن الأطر الثقافية المعروفة أو المعلنة (وهي المؤسسات السلطوية المختفية خلف أوراق الثقافة الموجهة).. 

وجدت أيضا ان الناقد المغاربي د.حسن المودن في أقوى معارضة له ضد موت الناقد يقول مدافعا عن رأيه من محاضرة له

(وأن نكون اليوم ضد رونان ماكدولاند، الذي أصدر سنة 2007 كتابه موت الناقد، معناه أن نقدم ما يكفي من الحجج التي تكشف أن الناقد الأدبي لا يموت ولن يموت، لكنه يتجدد ويبتكر لنفسه في كل مرة أسباب الحياة).

وأراه رغم إصراره على عدم يقينيَّة الموت إلا أنّه باعترافه ضمناً بالتحول التدريجي لولادات أخرى لإثبات ديمومة الحياة في النقد (كدليل على إنكاره لموت الناقد)، لا تبتعد عن (تجميل نفسي) لما يحتضر فعلا!.


الخلاصة:

موت الناقد لا يعني موت النقد بالضرورة، فالنقد ليس أدباً ورقيّاً فحسب ولا لعبة ثقافية تبحث عن شروط أنموذجية للأداء.. ولكن الإيغال في البحث عن معادلات مرادفة (من قبيل موت المؤلف تعني ولادة قارئ) فإنّ موت الناقد قد لاتعني بالضرورة إبقاء القارئ على قيد الحياة؛ لأنّ النقد هو القراءة بحد ذاتها لذلك فموت النقد هو موت آخر 

للقارئ في التسرّب الفوضوي للأفكار التي يجب المحافظة عليها بعد كل قراءة.. بعبارة أكثر وضوحاً إنّ النقد عملية أولى للقراءة أو هي تقديم الأدب كي يكون مقروءاً باعتبار القراءة هي عملية تدبّر وفهم وليس أمراً للمتعة؛ لذا فإن احتضاره يعني احتضار ما بعده.. لذلك فإنّ الإشارة لموت النقد 

تؤدي لتلاشي اليقين في القارئ الحقيقي.. (هكذا أرى).

الأخطر في هذا الكتاب انه يكشف العلاقات غير المنطقية بين النقد والتطور.. فالتطور الذي حصل بسرعة البرق لم يعد ينتظر نقدا يكيل له الأمر بنظريات خالية من روح العصر والتكنولوجيا ذات الطابع السريع وغير المتعمقة باللغة الرصينة والالتزام التاريخي أو الأخلاقي.. فبات النقد أكثر صعوبة في الانتشار حين كان يحدد الكتابة السيئة عن الجيدة وفق معايير جمالية بدأت تتلاشى تقريبا في عولمة الأرض التي ساد فيها التمرد في مابعد الحداثة.

الأخطر أيضا ان النقد (كما يقول المؤلف) يتلاشى بين الأزقة الأكاديمية والقرّاء، بوصف القراء من العامة التي لها الحق في الرأي ضمن لعبة الديمقراطية المزعومة، الأمر الذي ارجع النقد إلى التقوقع داخل الدراسات الجامعيَّة لأنَّ الجمهور له حرية التعبير ضمن لعبة حقوق الإنسان.. وقد تكون الدولة هي التي ترسم هذا الطريق بحجة تلك الحقوق تلك فانتشرت الفوضى حيث أصبح معظم القرّاء نقّاداً لبعضهم البعض..

يقول ماكدونالد ضمن فصول كتابه: إنّ ابتعاد النقاد عن رأي آرنولد (ماثيو آرنولد 1822- 1888 - مؤلف كتاب وظيفة النقد في الوقت الحاضر سنة 1864)

النقد بتجرد وحياد جعل مفهوم النقد انتقائيّاً لعدم الوصول إلى اتفاق في فهم معنى الحياد والتجرد أصلا ..(ص82)

ويختم المؤلف كتابه في الصفحة الأخيرة (بتلك الأسطر الأربعة) :

لربما لا يكون الناقد قد مات بل جرت ببساطة تنحيته جانباً أو انه يأخذ سنة من النوم، وتتمثل الخطوة الأولى الضرورية لإيقاظه في استعادة فكرة الجدارة الفنية وزرعها في قلب النقد الأكاديمي، وإذا كان النقد راغبا أن يكون ذا قيمة ومهتما بالوصول إلى جمهرة القراء فعليه أن يكون تقويميا... (هنا ينتهي الكتاب).

وأخيراً..

إنَّ مجرد الإشارة إلى موت الناقد ولو من بعيد أو على حياء فإنّها إشارة ناعمة تحمل شعلة أخطر من شعلة ديوجين الرمزية التي جاب بها قرى نائية وليس عالماً فيه شبكة عنكبوت عملاق تصل العالم بثوانٍ من أقصاه إلى أقصاه...