أقواس الحياة

منصة 2024/01/22
...

 حبيب السامر
تُوهِمُنا أقواس الحياة العالية، الواطئة، العائمة، السابحة، المكسورة كموجة، بظل ضوء مشروخ عند قاعدة تبدو للوهلة الأولى مثل وحش رابض من دون حراك، تلك هي الحقيقة المرّة التي نحس بها الآن، كلما تردت تلك الأسئلة ونمت على سطح صقيل، تشتدُّ بألوانها المتفاوتة على سعة تلك المدينة المحصورة بين شوارع أعرفها ومداخل أزقة قد تعرفني.
حين يتردد اسمها في داخلي، تشب حرائق التوجع، على الرغم من تلك الأعوام الزاحفة على تقاويم مخذولة، يا لهذا الشعور المستبد حين أعبر تلك الجسور الضيقة التي لا تسعف حركتها لشخصين متجاورين في لحظة واحدة.
أزعم بأنّني أدرك الغيوم المحتشدة فوق تلك المساحات العشوائية ونهايات جسور في مساء شاحب، تبدو هذه اللوحة خارج إيقاع الفنان في تعريفاته عن انشطار اللون الداكن، كلما همس للمرأة القريبة منه بعينين دامعتين، وهو يتذكر تلك الأيام المعقدة التي مرا بها بخوف وقلق.
فتحات النوافذ تتكرر في هيكل هذا البيت وهي تستقبل الضوء الشحيح ثانية، يا لهذه السماء البخيلة هذا الصباح، كأنها ترصد كابوس الليلة الماضية وهو يتوزع في زوايا الغرفة المعتمة.
تأمل الخط المائل وهو يرسمه بفرشاته الصلبة، بعد تراكمات الألوان اليابسة، حاول أن يغمسها في وعاء صغير، يغطي نصفه الماء الممزوج بألوان شتى، كي تترطب شعيرات الفرشاة وهي تسرح بمرونة على جسد اللوحة، يكرر الخط الفاصل ويبدو بانسيابية أكثر، يصمت قليلا وهو يحاول أن يدفع الأشياء المزحومة في ذاكرته ويتخلص من عناد تلبسه طويلاً، وترك تكاسلاً في أنفاسه المخنوقة ليزيح تراكم الريح في تلك الغرفة الضيقة الداكنة، العالقة في خياله وينسحب تدريجياً من الضجة خارج مدياته، وكأنّ الأحداث تتجدد خارج النافذة.
بهتت الألوان ثانية، بعد أن مرت عليها فترة طويلة وهي متروكة في مخزن متراكم، كان الفنان يتلفت سريعاً ليتفقد أصباغه التي تيبّست هي الأخرى في غفلة من الملل الذي أصابه مؤخراً، هذا السؤال الكوني المبطن، يربكه دائماً، ويظل حائراً، متسمّراً في مكانه، وهو يشعر بشحوب الفكرة ونضوب حساباته المتقنة، في ظل تلك النظرات السطحية المروعة في تفقد أشيائه المحبّبة له:
- لا أفكر كثيراً بما سيحدث
- اكتفي بتفكير ساذج دونما زعانف تذكر.
- لا أحتاج أن أفسّر تلك الدوائر المتداخلة، يكفي أن أكون مشغولاً بما يعتمر في داخلي مقابل تلك الأحداث القريبة.
- هكذا أرفض أن أمنح نفسي وهما إضافيا، أكثر مما مررت به، الحياة لا تستوجب المزيد من تفسيراتنا حول ما يجري هنا. في كل يوم ننبش مواقدنا لتظهر لنا حكاية دخان جديد، بل حكايات لا أول لها ولا آخر، تشعرنا بمساءات شاحبة وثقيلة تتناولها المذيعة بتغنج بموجزها الممل، تحاول أن تخلط الأشياء المنحوسة ببعض وفيات وتصادم قطارات ليليَّة، وطائرات هابطة في مطارات مزدحمة، وصراع شبان، انتحار شابة من الجسر الايطالي، هذا هو ديدن المذيعة وهي تلوك أوجاعنا. يتكرر ذلك، وتتجدد الحكايات المربكة، لتزيد من متاعبه كلما أمعن في قلب الموضوع، والبحث عن قنوات أخرى في ريموت صغير
بحجم اليد.