بغداد: نوارة محمد
عبرنا باب الاستعلامات وصرنا أمام مكاتب الموظفين. كنا نحن المراجعين الأوائل يتجاوز عددنا 30 شخصا بقليل. كانت حوارات موظفات الإدارة مع بعضهن البعض تعلو وهي تغلب ضجيج مطالباتنا. عرفنا حينها أن الجبن كان حاد الملوحة، وأن موظفة منهن ستذهب اليوم إلى المحال التجاريَّة للاستفادة من عروض black Friday.. جميعنا عرفنا أنّها ستحسب "قرض بناء" من مصرف الرشيد، وتساءلت فيما إذا كان أحد المراجعين بإمكانه مساعدتها، وعرفنا أيضاً أن واحدة منهن تُفضل المسلسلات التركية وهي متابعة جيدة لصاحبات محتوى "التاروت" على تطبيق اليوتيوب وقارئات الفنجان، في هذه اللحظة لم ينتبه أحد لانتظارنا.. لوجودنا ولم يحصل أيٌّ منّا على ردٍّ بشأن معاملته.
اكتفت الموظفة بالإشارة وإغلاق النافذة لحين إنهاء وجبة الفطور. ترى آمال، 31 عاماً، وهي موظفة في وزارة التخطيط أن "عدد ساعات العمل الفعليَّة تتفاوت بين موظف وآخر، بحسب مهام وآليات عمل الوزارات والمديريات"، كما تقول: "لكننا نمارس مهامنا حسب جدول مُعين وضعناه فيما بيننا، ونؤدي دورنا كموظفين بالتساوي". وتتابع: بالمقابل فإنّ ساعات الاستراحة وهي محدودة بين ساعة للإفطار التي لا يمكن التخلي عنها، وساعة الغداء وأحياناً تأدية الصلاة، وهذه حق من حقوق الموظف وهي لا تتعدى كونها ساعات استراحة بين سبع ساعات عمل يومي.
في هذا الوقت يتفق الجميع على أن الموظفين يتعاملون مع المواطنين والمراجعين بازدراء وأحيانا بقرف واضح، إلا إذا وجدوا فتاة جميلة تستحق اللطف، ويتفقون أيضاً أن عدد ساعات العمل الفعليّة للموظف العراقي تكاد تكون ساعتين أو أكثر بقليل، وهي إذا ما قورنت بأعداد الموظفين في الدوائر والوزارات تبدو بطالة شُبه مقنعة.
يتحدث عن ذلك أحمد مظفر، وهو مُهندس وطالب دكتوراه، وهو يقول إن "هذه المرة الخامسة التي أراجع فيها الوزارة -المعنية بحاجتي لها- وكل مرة تخبرني الموظفة بابتسامة مصطنعة أنّ معاملتي ناقصة، كما لو أن ذلك جاء إنقاذا ليومها من مهمة عمل شاقة".
ويضف: أنا مع تقليل سُلّم الرواتب وإعادة هيكلة الإدارة الوظيفيّة على أن يتم احتساب كل "فلس" للموظف من خلال ساعات عمل ضمن حكومة الكترونية، وضد أي اضافة للرواتب، التي يدفع ضريبتها الشعب.
ويتابع: أن "هذا الكسل يبرّر سُبل التهافت نحو التوظيف الذي يؤَمن مصدر دخل مادي ثابت، ويُعزز الأمن النفسي أمام تاريخ الجوع العراقي، ويقضي على القطاع الخاص نهائيّاً".
ويقول الناشط المدني عمار خضير: لم يقدم الموظف العراقي متوسط ساعة عمل واحدة في اليوم، بل إنّه يصر على الهروب والتقاعس والبحث عن مكانات دافئة تضمن لهُ الهروب من العمل والمراقبة والبصمة الذكية وغيرها.
وهو لا يملك الذكاء الذي يكسر الروتين ولا يملك الشجاعة في اتخاذ القرارات بل تجده يكتب آلاف الكتب من دون أن يتخذ قراراً شجاعاً واحداً فكيف يستحق ديناراً إضافيّاً؟".
ويعود خضير للقول، إنَّ "الموظف العراقي ينزح نحو القطاع الخاص أثناء الوظيفة، وينزح لتعدد مصادر الدخل اثناء الوظيفة، ويبدأ من الرشوة ولغاية استثمار الوظيفة لتحقيق دخل عالٍ من خلال استغلالها لمصالحه الشخصية".
وعلى هامش هذا الأمر يقترح الاقتصادي علي خليل، بالقول: تحويل الفائض أو المقترح، فضلاً عن رواتب الموظفين إلى صندوق لدعم المشاريع الصغيرة لغرض السيطرة على ملف السوق من خلال تقليل الاستثمار، ولا ضير من فشل نصف هذهِ المشاريع لتكن تجارب بدل توزيع أموالها على موظفين يمتهنون مهن خاصة أو يهربون من المسؤولية أو يعدون الأيام لتسلم الراتب.
ويدعو الخبير الاقتصادي الدكتور ميثم العيبي الجهات المختصّة إلى احتساب أجور ساعات العمل للموظف بحسب ما ينتج. ويقول: ولكي لا تتفاقم أزمة البطالة المقنعة ويزداد الانتاج على الجهات المعنية احتساب الأجور حسب عدد الساعات".
ويضيف أنَّ "الدولة توفر ضمانات وامتيازات ومخصصات لموظفيها بدءاً الضمان الاجتماعي والتقاعد وصولاً للايفادات وليس انتهاءً بالأراضي السكنيّة والقروض الماليّة، بالمقابل فإنَّ الموظف في القطاع الخاص يقدم كل ما لديه ولا يحصل على أيّ حق من حقوقه.
ويتابع العيبي أن: "النظام الوظيفي يعاني من خلل في هيكليَّة البناء؛ لذا فنحن بحاجة لاستقطاب أيدي عاملة في دوائر ووزارات الدولة بهدف الانتاج، لا التعيين فقط".
أما آمنة عصام، 25 عاماً فتجد أنَّ الوظيفة حق طبيعي لأي مواطن عراقي حاصل على شهادة، وتقول: إننا حملة شهادات البكالوريوس لم نحصل على عقد عمل منذ عشرات السنوات في الوقت الذي تكتظ فيه دوائر الدولة ووزاراتها بآلاف الموظفين المتقاعسين عن العمل. وتتابع: أريد أن أمارس دوري في تعليم اللغة الانكليزية، فهل هذا مستحيل؟.
من هنا نتساءل: هل سيستمر الموظف العراقي بإقامة صلواته أثناء الدوام الرسمي وتناول وجبات فطوره بأريحيَّة بينما المراجعون يقفون "كالكتاكيت" خلف الأبواب والنوافذ.