اِبني مصابٌ بالتوحّد

منصة 2024/01/25
...

 سريعة سليم حديد    


يصاب بعض الأطفال بمرض التوحّد؛ فيصعب التواصل معهم، مما يدفع الأمر لقلق من حولهم، لعدم وجود علاج له حتى الآن. ولكن من الممكن القيام بإجراءات سلوكيّة تحدُّ من تقدم المرض، وربما تصل بالطفل إلى مرحلة جيدة من الاندماج مع الآخرين.

من هذا الباب الواسع، ندخل مستكشفين أموراً تتعلَّق بهذا المرض، منها: إشكالية أسبابه، وأبرز أعراضه، وبعض التوجيهات التي تسهم في العلاج والتخفيف من تقدمه إلى حدٍّ ما.    

عادةً ما يعرف التوحّد أو الذاتويّة بأنّه أحد اضطرابات الطيف الذاتوي، أي اضطراب عصبي، يظهر قبل عمر 3 أعوام، ويؤثر في قدرة الطفل على التواصل مع المحيطين به، إذ لا قدرة لديه على التفاعل الاجتماعي والتواصل اللفظي، ويصاحب هذا حدوث أنماط سلوكيّة مقيدة ومتكررة، مثل: الاهتزاز، والدوران، ورفرفة الأيدي. وعندما يتحدث أحدٌ معه يبدو وكأنّه لا يسمعه، لذا فهو يخاف من الغرباء كثيراً؛ وكأنه يعيش في عالم آخر من العزلة. 

ومن اللافت أنَّ هناك من يعتبر التوحد ليس مرضاً، لكنه نوع من أنواع الإعاقات العقليّة. وقد سمّي بالتوحّد لأن الطفل يتوحّد مع عالمه الخاص منعزلاً عن العالم المحيط به بكل إدراكاته ومشاعره.

حقيقة، هناك أسباب عدَّة للتوحد، منها مرضيّة، مثل: ضمور العضلات ومتلازمة (داون) والشلل الدماغي والأمراض التي تؤثر على الدماغ... ومنهم من يُرجع الأمر إلى أسباب وراثيَّة، وهذا فيه وجهات نظر كثيرة. أضف إلى ذلك ولادة الطفل قبل الأوان، وتناول الأم أثناء حملها الكحول أو بعض أدوية علاج الصرع.

إنَّ أعراض هذا المرض تختلف من طفل إلى آخر من حيث درجة الشدة، وينطبق هذا على كل ما له علاقة به من حيث القدرات الجسميّة والحسيّة والعقليّة. حيث تتراوح نسبة الذكاء لدى المصابين بالتوحد بين الضعف الشديد والعبقريّة، وغالباً ما يرافق التوحد فرط في النشاط وعدم إدراك الخطر.

فمن الملاحظ على الطفل التوحدي أنّه لا يتواصل بصريّاً مع متحدثه، أي لا ينظر إليه، حتى لو ناداهُ باسمه، وكلامه يخالف تعبيرات وجهه، وإذا أراد أحدهم أن يحضنه أو يحمله، فهو يقاوم ذلك ويرفضه؛ فضلا عن تأخره بالنطق وعدم استخدامه جملاً مترابطة، ولا يبدي اهتماماً أو استمتاعاً بالفعاليّات والأنشطة التي يقوم بها؛ على عكس أقرانه من الأطفال الأسوياء، ولا يستطيع بدء أية محادثة، أو الاستمرار فيها، ويعمد إلى تكرار سلوكيات معينة بشكل نمطي، وتكون لديه حساسيّة زائدة للمثيرات الحسيّة مثل الضوء.

إنَّ التوحّد لا يقتصر على الصغار، بل يتعداه إلى المراهقين والكبار، فيلاحظ على المراهقين إبداء بعض ردود فعل غريبة تجاه يُبدِي المُنبهات المُختلفة، مثل الضوء والأصوات والروائح واللمس والتذوُّق، كما ينزعجون من الأصوات حتى الضعيفة منها، والتي تعد جميلة بالنسبة للأشخاص العاديين كأصوات العصافير وحفيف أوراق الأشجار.. كما يتأثرون بشدة عند حدوث التغيير المفاجئ للتغيرات الحسيّة التي تحصل مثل: ظهور الأضواء الساطعة والأصوات العالية وملامسة أشياء خشنة الملمس، وهم لا يظهرون أي اهتمام بالأحاديث الموجهة إليهم مباشرة؛ لأنّهم غير قادرين على التعبير عن مشاعرهم، فيلجؤون إلى الصراخ أو البكاء أو غير ذلك.

أما أبرز علاجات اضطراب التوحّد فأهمها العلاج السلوكي الذي يهدف إلى إكساب الطفل المصاب باضطراب التوحد المزيد من المهارات السلوكيّة عبر برامج معينة، تجعله يتفاعل مع المحيط الاجتماعي، مما يساعده على الحد من تطور المرض. فيمكن للأبوين الاطلاع وتطبيق بعض الأساليب الخاصة بتربية طفل التوحد، مما يجعل مهمة السيطرة على تصرفاته مضبوطة إلى حدٍّ ما.

 أضف إلى ذلك العلاج الأسري الذي يهدف إلى دعم الشخص الذي يعمل مع المصاب بالتوحّد بالمزيد من المهارات النفسيّة والتربويّة والاجتماعيّة.

 ومن الضروري الاهتمام بالعلاج التربوي الذي يقوم به المختصّون في هذا المجال، مثل وضع الطفل ضمن مجموعة من الأنشطة التي تساعده على زيادة المهارات الاجتماعية، ومن ثمّ تفتح أمامه سبل التواصل مع من حوله.

هناك من يولي اهتماماً بالتدريب العلاجي السلوكي للمتوحدين، حيث يقوم المدرّب النفسي بالتواصل مع الطفل بطرق لطيفة فيشاركه ألعابه ويتودد إليه، ويشعره بوجوده، مما يحفز الأهل على ضرورة تغيير نمط سلوكهم العنيف حيال أطفالهم، فقد يلجؤون إلى إعطاء الطفل بعض أنواع من حبوب المنوم، للتخلّص من مراقبته والاهتمام به، مما يزيد الحالة سوءاً.

ومن أهم خطوات العلاج السلوكي: تدريب الوالدين ومعلمي المدارس وكلّ من يتعامل مع الطفل المصاب على كيفيّة التعامل معه. كذلك إشراك الطفل في مدارس ومراكز خاصة لتدريبه على التفاعل مع الآخرين. وتكرار العمليّات التعليميّة واللغويّة. وتعليمه الإيماءات والسلوكيّات التي تدلُّ عليها لغة الجسد، وضرورة استخدام العلاج الطبيعي لتنمية السلوك الحركي العصبي للطفل. وإشعاره بالحنان والحب، وتحمّل الأخطاء التي تصدر عنه. 

وهناك من يضيف لهذا المرض العلاجات الدوائيَّة علماً أنّ لها الكثير من الجوانب السلبيَّة، حتى أدوية المنوّم قد ترهق الطفل، وتسبب له العديد من المشكلات.

قد يصف الطبيب علاجاً دوائيّاً مناسباً لحالة الطفل المصاب بالتوحد، وقد يشمل مضادات للقلق ومضادات الشرود، فتساعد على التقليل من أعراض التوحد.

من الضروري اتباع نظام غذائي يشمل كل العناصر الغذائيّة، بحيث يتلقى الطفل وجبات غذائية متنوعة ومنضبطة، فلا تؤدي به إلى السمنة أو تجعل جسمه نحيلاً، أيضا على المتعاملين مع الطفل المصاب بالتوحد أن يجدوا أساليب جديدة للتواصل معه مثل: اللعب والمرح.. وأن يمنحوه الوقت للتواصل معه، يكونوا إيجابيين، فلا يشعرون بالإحباط إذا لم يستجب الطفل للعلاج. ومن المهم أن يجعلوا طفله، يقوم ببعض الأعمال المنزلية البسيطة برفقتهم وتحت مراقبتهم، مثل وضع الطعام على المائدة، وغير ذلك.

وقد صرَّحت مؤخراً جامعة (أريزونا) الأمريكيَّة.. بإمكانية علاج التوحد وتخفيض أعراضه بنسبة 50 بالمئة خلال عامين تقريباً... عن طريق زراعة بكتيريا طبيعيّة نافعة شرجياً مأخوذة من متبرعين أصحاء؛ هذا ما يعطي أملاً كبيراً في التوصل إلى حلول مجدية مستقبلاً. وكلما بدأ العلاج في عمر أصغر كانت الاستجابة أفضل. لذلك على الوالدين إخضاع الطفل للفحوصات اللازمة مبكراً وبشكلٍ متكرِّر وخاصة عند الشك بسلوكيات الطفل منذ الصِغر.

إنّ حالة التوحد التي يعيشها الطفل قد تحتاج إلى مداراته ومعاملته بلطف وعدم إعطائه المنوّمات التي سوف ترهقه وترهق من حوله، فالكثير من الإجراءات السلوكيّة المنزليّة الإيجابيّة من شأنها أن تخرج الطفل من حالته إلى حدٍّ ما، فعندما يشعر الطفل باهتمام وحنان من حوله فسوف يحاول الاندماج قدر استطاعته. والتوحّد مثله مثل أي مرض لم يتوصل الخبراء إلى علاج نهائي له، ولكن الأمل ما زال مستمراً.