مَلَكَة الذّوق في المجتمع

منصة 2024/01/29
...

 كاظم لفتة جبر 

يعد الذوق الحاسة التي نميز بها الجميل من القبيح، وهي صفة تميز الإنسان عن غيره من الكائنات في بحثه عن الجمال، إذ يخضع فعل التذوق للمعرفة والتأمل، بعكس الحيوانات التي يخضع فعل التذوق عندها إلى الغريزة الجنسيَّة، فبناء اللذة الجماليَّة يعتمد على حاسة الذوق بين أن تكون هذه اللذة جميلة أو قبيحة، خيرة أو شريرة، سامية أو متدنية. 

فاللذة الجماليّة عند الإنسان يحكمها التفاوت بسبب أسباب عدة منها العمر، والمستوى الثقافي، وقيود المجتمع، إلا أنّ اللذة عند الحيوانات تكون محددة بمتعة التكاثر فقط، وهي تعتمد على الألوان في إثارتها لتلك اللذة، بعكس الإنسان الذي يكون غير محدود اللذة بشيء معين، لكونه يملك الخيال والفكر والتأمل. 

فاللذة الجماليّة يمكن أن يتحصّل عليها الإنسان من جميع ما يحيط به من طبيعة وإنسان وفنون، فالذوق مفهوم فكري أكثر ما يكون حاسة تعتمد على الحواس في إدراك الأشياء وتجرديها حسيَّاً أو ذوقيَّاً في نقل الأحاسيس إلى العقل لغرض فرزنتها حسب الصور وثقافته التي يحتفظ بها الانسان عن ذلك الموضوع الجمالي. 

فحاسة الذوق في الإنسان لا ترتبط بعضو معين من الجسم، بل جسم الإنسان ككل يعد حاسة لتذوق الموضوعات الجمالية والتفاعل معها، فالجميل والقبيح، والراحة والألم، الفرح والحزن، كلها مفاهيم وأحاسيس تعبر عن فهم مختلف في كل واحد فينا عن تلك المفاهيم. فالموضوع الذي نعده حزناً قد يكون فرحاً عند إنسان آخر من ثقافة أخرى، والألم الذي يصيبنا قد يعده آخر شيئاً عادياً ومريحاً، والجميل الذي نستمتع بوجوده وحضوره قد يكون قبيحاً ومنفّراً عند إنسان آخر. 

فحاسة الذوق لا يمكن تحديدها بما هو مادي من حواس، بل هي ملكة ترتبط بالخيال والعقل، فثقافة الفرد هي التي تنمي هذه الملكة وتقويها ذوقياً، علماً أنّها فطريّة في  كلِّ الإنسان، إلّا أنَّ تفاوتها بين الناس يكون بشكل مكتسب.

فبعد العمر واختلاف المستوى الثقافي للمجتمع، تأتي مهمة السلطة في تدجين ملكة الذوق في المجتمع من خلال فرض قوانين وسياسات عدة تحدد فاعليتها. وهذه السلطة قد تكون سياسيّة أو دينيّة، والغرض من ذلك هو فرض السيطرة على المجتمع وتحديد متطلباته. معروف أن الفن والجمال ذو سلطة تحاكي اللاوعي عند الأفراد والجماعة فيتم التحكم بهم، أو يكون رسالة الأفراد للسلطة، لهذا الأمر تفرض السلطات سيطرتها على الفنون. فالذائقة الجماليّة مهمة في تطوير المجتمعات ورقيها، كون أن الجمال يدخل في صميم النشاط الإنساني من ناحية الرفض أو القبول في التعامل مع الموضوعات والشعوب الأخرى. 

فالفرد الذي يكون ذا ثقافة متدنية يكون ذوقه الجمالي ضعيفاً، ولا يفرّق في الموضوعات بين الجميل والقبيح، ومن ثمَّ يخسر المتعة التي يبحث عنها. أما الفرد المثقف فيجد المتعة في أبسط الأشياء التي قد يراها الإنسان الذي لا يملك ثقافة بأنّها تافهة لأنّها لا تجذب نظره، أو لأنّها لا توفر له حاجته المادية، فالفرد المثقف يكون إنساناً ذا ذوق، أما الفرد العادي فهو عديم الذوق حتى في تصرفاته وسلوكياته مع الآخرين. 

فالذوق الجمال فطري عن الأفراد ويمكن تهذيبه وتطويره من أجل قدرة الإنسان على التمييز بين الجميل والقبيح بالحواس والعقل، وهذا ما يميز الفرد المثقف بشكل عام، أما الفرد العادي فثقافته لا تتعدى حدود حواسه، لذلك تجده يميل إلى الموضوعات الجمالية التي تهيج الأهواء والشهوات عنده. أما الذوق الفني فيعتمد على درجة الإحساس بجمال الأشياء، والتمييز بين الجمال والابتذال والإبداعات الفنيّة الأصيلة والرخيصة. 

فمن خلال حاسة الذوق يمكن التعرّف على الآثار والأمراض وطبيعة كل فرد فينا، ويمكن دراستها وتقديم المعالجة لتلك الأمراض النفسية والاجتماعية من خلال الفن والجمال. فالمجتمع الجيد صحيّاً هو المجتمع المثقف، وهو الذي تقل فيه النزاعات والحروب والجريمة، وبوادر الكراهية والأمراض، كل ذلك يكون بفضل الذوق الجمالي وأهميته.