جواد علي كسّار
ليلتان وثلاثة نهارات، أمضاها وهو بين قيدين؛ يداه المغلولتان إلى عنقه، وصخور الجبل التي تطوّقه من جهاتٍ ثلاث، والرابعة مفتوحة على المدى المفضي إلى المدينة.
هجم عليه الليل بظلام حارق، وقلب مضطرم بالحزن والهمّ والكآبة، ينوء بثقل كريه، يبغض فيه نفسه، ويلعن تلك اللحظة التي سقط فيها، تحت أغواء نفسه ومعونة الشيطان.
أعماقه تصرخ، تتوسّل بدموعه، وتنطلق بنداءٍ لحوح: خلصني، من ذا يخلصني غيرك؟ إلى أين أفرّ، إن أنت أوصدت بابك دوني؟!
قبل سبعة أشهر بدأت الواقعة في قصة طويلة، فقد كان رزقه كفافاً يأتيه من عمله الشاق في الأرض، لكن حياته كانت مسترخية لينة، ترسل بظلال البهجة عليه وأمّه، وهما يعيشان معاً. فجأة فكّر بالثراء حين راودته نفسه ببيع أكفان الموتى، بعد سلبها ليلاً ممن دُفن في النهار، فتناسلت المعصية، لأنها كالمياه القذرة إذا غطس فيها الإنسان ينحدر بدوّاماتها، وهي عيون كدرة يفرغ بعضها ببعض، ففي تلك الواقعة لم يكتفِ بسلب الكفن عن صاحبته، بل كان ما وراء ذلك!
ليس له من مفرّ إلا إليه، رأى نفسه واقفاً باب مسجد النبي، طامعاً بدعاءٍ منه يغسل قبيحته، ويحظى بلحظةٍ من رأفة النبي، تنقذ نفسه، لكنه متردّد بين الإقدام والإحجام!
هو ذا يبكي مرّ البكاء، فحنّ له الجميع، ورقّ له مُعاذ بن جبل، الذي احتضنه شفقةً، وهو يطلب أن يرى رسول الله. وقف أمام النبي ينحب، وكينونته تتقيح كأنها قرحة نجسة من هول ما هو فيه. ما لك؟ سأله النبي، الشاب: ذنبي يا رسول الله! لعلك أشركت بالله العظيم؟ خرّ الشاب ساجداً، كلا يا رسول الله، وأعوذ بالله أن أشرك بالله!
عاود إليه النبي السؤال: لعلك قتلت النفس التي حرّم الله؟ كلا، والله يا رسول الله ما قتلت، إذن يغفر الله لك ذنوبك، ولو كانت كالجبال، يردّ الشاب على النبي: ذنوبي أعظم من الجبال، فيقول له النبي: أخبرني إذن عما فعلت؟ أزفت اللحظة الموعودة، حين باح لنبيّه بعذابه، وحدّثه القصة كاملة وكيف أعقب سلب كفن الفتاة الأنصارية المتوفاة، بفعل الفاحشة، فجاءه الجواب: ما أقربك من النار!
أخذه جواب النبي إلى أن يقيّد نفسه بحبل، ويعيش وحيداً مع ذنبه وعذاب الضمير، في عزلة بين صخور ثلاثة عند أحد جبال المدينة. أرهقه حاله، وهو منقطع إلى ربه، حين تسلل إليه صوت بعد خطىً وئيدة، يقول له: أيها الشاب، لقد أنزل الله فيك قرآناً: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.