رحلة القدس.. الطريق إلى الجنة العميقة
كريم رشيد
كمن يمسك بجناحي فراشة بحرص وحذر وضعت كل المستمسكات المطلوبة في حقيبة صغيرة علقتها على كتفي ظلت معلقة هناك طوال الرحلة، جواز السفر، الدعوة الرسمية الموجهة لفرقتنا من الفنان الراحل فرانسوا ابو سالم 1 وفرقة الحكواتي الفلسطينية وكتاب رسمي من جامعة غوتنبرغ يؤيد أنني في مهمة فنية برفقة اثنين من الفنانين السويديين لتقديم عرض مسرحية (كلكامش) في القدس ضمن مشروع تعاوني يهدف إلى إنشاء جسور بين الثقافات عبر المسرح. لم أكن مطمئناً لما سيحدث في مطار بن غوريون، وكانت إدارة الجامعة وإدارة الجهة الممولة للمشروع وأصدقاء سويديون قد نصحوني بعدم مرافقة الفريق إلى هناك رغم أنني مخرج العرض.
قالوا لي:
ـ لقد أنجزت مهمتك وأصبح بإمكان الممثلين تقديم العرض أينما كان، خصوصاً بعد قيامهما بجولة عروض في مالمو وستوكهولم وهيلسنبورغ وغوتبرغ ومدن أخرى في السويد.
وأضاف مديري بنبرة تحذير واضح:
ـ ستكون سفرة محفوفة بالمخاطر خصوصاً أنك تحمل جنسية مزدوجة عراقية سويدية. لا يمكن توقع ما يمكن أن يحصل جراء ذلك، وقد لا يمكننا مساعدتك حينها.
أجبته بهدوء:
ـ نعم أُدرك ذلك، حتى أن السفارة الاسرائيلية في ستوكهولم رفضت الإجابة عن أسئلتي واكتفت بإبلاغي أن تأشيرات الدخول تُمنح لمستحقيها داخل المطار، وفي حالة عدم الحصول عليها ينبغي عليّ مغادرة المطار والعودة مباشرة من حيث أتيت أو الوقوع تحت طائلة القانون.
كنت أتأمل أن إجابتي ستجعله يفهم شغفي ولهفتي التي تشتعل لظاها داخلي لرحلةٍ هي بالنسبة لي أقرب الى المستحيل منها الى الحلم.
ـ أعذرني لكني أرى أن سفرك الى هناك أقرب الى الحماقة منها الى الصواب.
أجابني بهدوئه الاسكندنافي المعهود من دون أن يرف له جفن، فبدى لي وكأنه كومة ثلج بيضاء هشة استقرت بهدوء فوق كرسي الإدارة.
وبهدوء مصطنع حاولت فيه تقليد نبرته الصوتية أجبته:
ـ بل هي حماقة أكيدة، لكن ما الذي يمكن أن يجنبني عضات الندم ولسعات الشعور بالخسارة إن لم أقتنص هذه الفرصة النادرة التي لا تمر في حياتي إلا مرة واحدة مثل مذنب فضائي يمر سهواً في مداري.
تعمدت تجنب النظر إليه لعل ذلك ينهي تلك المحاورة، إذ لا أظن أن كلماتي كانت مقنعة بالنسبة له لكنه أدرك أن رحلتي الى القدس هي قصة عشق قديم لم يكتمل حان الأوان لاستعادته.
رأى جذوة المشاكسة تشع في عينيّ ولذة تخطي الحدود تدفعتني بإصرار نحو شواطئ الحلم والتمني لإكمال قصة سأرويها لأصحابي ذات يوم، وها قد مر أكثر من 17 عاماً على تلك الحكاية التي وقعت في أبريل عام 2007 وصارت روايتها لازمة.
ما إن هبطنا في مطار بن غوريون في تل أبيب حتى كاد قلبي يقفز من صدري. وقع نظري على لافتات الارشاد في بهو المطار وممراته وكانت مكتوبة بثلاث لغات، العبرية والانكليزية والعربية، بدت وكأنها إشارة طمأنة خفضت من شدة القلق وذعر الخوف من ان تنقطع أخباري عن زوجة وابنتين صغيرتين تركتهن خلفي في مالمو. استعذتُ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وتوكلت عليه خيرُ صاحب في السفر وخليفة في الأهل. مر رفيقاي بهدوء وانسيابية من مكتب فحص الجوازات، فيما قادني ضابط الجوازات الى غرفة الاستجواب لأمكث هناك أكثر من أربع ساعات حافلة بالقلق والاضطراب بعد أن أخذوا مني جواز السفر وجهاز الموبايل وباقي وثائقي وأمتعتي. في تلك الساعات الأربع دارت في ذهني كل تنويعات المخاطر والمخاوف المتخيلة وسمعت صدى التحذيرات التي لم أعبأ بها حينها. وبعد جلسة استجواب مطولة مملة ومقلقة أعادوا لي جوازي وامتعتي وتركوني على مضض أتخطى حاجز الليمبو 2 .
مثل مرصد فلكي دارت عيناي لالتقاط كل ما يمكن رؤيته من إشارات ومعالم الأمكنة التي نمر بها في الطريق من تل أبيب الى القدس، كان الوقت ليلاً والطريق معتمة، أدركت لاحقاً أن ما كنت أراه هو صور امتزج فيها الواقع مع الذكريات في نسيج مركب ومعقد كما هو حال هذه البلاد. كنت في الحقيقة أبحث عن صورة تتطابق مع الخيالات والأحلام التي راودتني بين عامي 1994 ـ 1998 حيث كنت أقيم في العاصمة الأردنية، إذ اصطحبني أصدقائي في فرقة المسرح الشعبي حينها الى مناطق عالية في الكرك وعجلون بحثاً عن فسحة لرؤية القدس من هناك، فكثيراً ما سمعت الناس يتحدثون عن امكانية مشاهدة المسجد الأقصى وقبة الصخرة من هناك إذا كانت الأجواء صافية، لكن سوء الحظ رافقنا حينها، كان الجو مضببا فلم نَرَ شيئا وظلت مشاهدة القدس لوعة في النفس ترافقني حتى حان موعد هذه الرحلة التي غمرتني مثل طيف ظهر فجأة واختفى على عجل.
السائق الذي أقلّنا من المطار الى القدس رجل شديد الهدوء، أوحى لي صمته بأنه يخفي الكثير من الأسرار التي تُثقل قلبه وذاكرته، فكلما مررنا بقرية أو ضيعة او مدينة خرجت منه زفرات وحسرات تختزل حكايات ماض مؤلم وتكسر صمتنا نحن الثلاثة أنا ورفيقاي، سفين كريسترسون 3 وفريدريك مير4 بعد أن أطاح بنا القلق وطول الانتظار.
وصلنا قبيل الفجر بقليل الى محل إقامتنا في فندق متواضع في قلب القدس الشرقية، ذهب كل منا الى غرفته، وبينما غط رفيقاي في نوم عميق كنت أنا أنتظر سماع آذان الفجر من مساجد القدس لأول وآخر مرة في حياتي، انتظرت حتى مطلع النهار كي أتمكن من العثورعلى Via Dolorosa طريق الآلام والحنين والإيمان والشغف في البلدة العتيقة، ومضيت الى هناك من دون صحبة أو دليل.
وقفت أمام باب العمود أحد أبواب سور القدس ومضيت الى الداخل وكأنني في طريقي إلى ملاقاة روح حبيب مفقود حلت في جسد طاهر استجابة لدعاء ناسك متعبد خاشع في ليلة القدر. بعد جولة في المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة عدت من جديد الى الفندق لأجد رفيقيَّ يجلسان على طاولة الفطور يغطان في صمت مطبق كأنما حط على رأسيهما الطير، لم يمسا من الطعام شيئا لأنهما ظنا أنني قد اختفيت لسبب غامض.
في قاعة جمعية الفتيات المسيحيات في القدس وضعنا الملحقات التي اصطحبناها معنا، لم تكن أكثر من بساط صوف يدوي عراقي وعصا خشبية طويلة مثل غصن من شجرة هرمة، وضعنا كل شيء في مكانه بانتظار أن يتم فردريك ميير نصب وتركيب مجموعة الطبول والصنج وأدوات إيقاعية يدوية شعبية كان قد جمعها من سفراته الكثيرة في بلدان العالم المختلفة وضمها الى طاقم آلاته الموسيقية فجعلت موسيقاه متفردة قادرة على خلق بيئة مسموعة تتوافق مع أجواء الملحمة السومرية، ثم بدأنا تدريباتنا وكأننا سنقدم ذلك العرض لأول وآخر مرة. كانت التهيئة لللقاء الأول مع الجمهور المقدسي مثل مناسك أداء صلاة جماعية في كنيسة قديمة، ليس فقط لأنها بادرة غير مسبوقة لجمهور عاش طويلاً منقطعاً عن التواصل المباشر مع العروض المسرحية العربية بل لأنه جمهور محشور بين المطرقة والسندان، حيث تحاول السلطات الأسرائيلية طمس ملامح الهوية العربية في القدس فيما تمتنع الفرق والمهرجانات المسرحية العربية عن التعاطي مع المسرح الفلسطيني في المناطق الواقعة تحت سيطرة السلطة الأسرائيلية استجابة لسياسة المقاطعة العربية. كنت أرقب ردة فعل الجمهور التي شكلت عرضا موازيا خصوصا في الجزء الذي يروي فيه كلكامش لقاءه بـ (أوتنابشتم) الذي بنى مركبا عظيما حمل فيه زوجا من كل كائن حي فأنقذ البشرية من الطوفان، وهذا بالطبع الجذر التاريخي لقصة النبي نوح الواردة في سفر التكوين في كتاب العهد القديم.
لم تكن إقامتنا في القدس طويلة، إذ كان علينا القيام بجولة عروض في رام الله وبيت لحم وأريحا خلال أسبوع واحد ولا بدَ أن يتم كل شيء في أقصى سرعة ممكنة ويمر بهدوء ومن دون ضجيج مثل برهة خاطفة. كانت رام الله محطتنا الثانية، اختفت هناك دوريات الجنود الأسرائيليين الذين يجوبون شوارع القدس مدججين بأنواع الأسلحة وحلت محلها أرواح هائمة في الشوارع والحارات والأزقة والبيوت تبحث عن خلاصها.
قادنا الصديق المخرج المسرحي الراحل فرانسوا أبو سالم الى بيته في حي الطيرة في رام الله كعادة أي عربي يريد أولاً الترحيب بضيوفه والتأكد من سلامة وصولهم، كان بيته يشبهه كثيراً، ناحلاً متيقظاً بهيجاً مثل ثغر مبتسم، تناثرت فيه الكتب والمجلات في كل مكان واختلطت فيه صحون المطبخ مع ملحقات واكسسوارات المسرح والدمى والأقنعة وأقراص الموسيقى والمؤثرات الصوتية وغطت جدرانه صور وملصقات من عروضه المسرحية في مسرح الحكواتي وجولاته المسرحية في فلسطين وفرنسا وأماكن أخرى من العالم فبدى وكأنه صالة تدريبات مسرحية غادرها الممثلون تواً.
في رام الله حظينا بتقديم عرضنا في مسرح القصبة، صالة رحبة ومنصة مسرح واسعة مما جعلنا نعيد صياغة الحركة في العرض وتصميم اضاءة تتوافق مع تلك المنصة الواسعة والجمهور المتلهف للقاء يجمع بين ثقافات مختلفة تتصل جيمعا بجذر مشترك تمثله ملحمة كلكامش.
قبل مغادرة رام الله نحو محطتنا الثالثة كان لا بد لي من ان أنتهز الفرصة واتصل بالصديق الفنان المسرحي الفلسطيني فتحي عبد الرحمن الذي جمعتني وأياه رفقة سنوات وعمل مشترك في فرقة المسرح الشعبي في العاصمة الأردنية قبل انتقاله الى فلسطين. كان وقع المكالمة الهاتفية عليه مفاجئا وصادما، لم يصدق فتحي عبد الرحمن أنني في فلسطين بعد أن أفترقنا في عمان عام 1998 حيث هاجرت أنا الى السويد فيما عاد هو الى فلسطين، ظنها مزحة عراقية أو مقلباً من المقالب التي كنا نغالب فيها الضجر والفقر في عمّان. كان لا بد لنا أن نلتقي على ظلال لقاء كلكامش بصاحبه أنكيدو، غير أن لقاء صاحبي الفلسطيني فتحي عبد الرحمن كان أعقد بكثير مما كنت أتصور، فهو مقيم في مكان يصعب عليه الخروج منه والتنقل في أوصال الجسد الفلسطيني المُقطع.
ـ قد يمكن لنا أن نلتقي عند الأسلاك الفاصلة بين حاجز التفتيش بين المنطقتين لكن سيقف كل منا على طرف وسنلتقي مثل اللاجئين عند مفارق الحدود. جاءني رد صديقي الذي ترقبت لقاءه واهناً موجوعاً وصدمتني قسوة الوصف فتحسست كفي لأرى أن كانت قد نبتت فيه أسلاك شائكة، وذهبت أفكاري في مدارات التأمل المستحيل. لماذا يصعب على إنسان أن ينتقل من مكان الى آخر داخل وطنه فيما يتيح لي جواز السفر السويدي حرية الدخول والخروج والتنقل ما بين تلك المناطق التي يُمنع أهلُها من دخولها؟، هل ينبغي عليّ أن أشعر بالذنب أم بالغضب؟ كان شعوراً يمزج ما بين الحالتين لم ولن أنساه حتى يومنا هذا.
بدت الطريق إلى أريحا وكأنه منحدر الى باطن الأرض، منبع الحكايات ومستودع الأسرار، فهي أخفض بقاع الأرض وأخصبها، ربما كان ذلك هو سر تسميتها التي تعني في اللغة السريانية (الرائحة الطيبة أو الأريج) لم يكن الطريق إليها سالكاً رحباً بل مزروع بنقاط التفتيش مثل ألغام أرضية خفية تثير الفزع.
على شاطئ البحر الميت توقفنا لنلتقط بعض الصور، ولا أدري إن كانت هي الصدفة أم الرغبة الغاطسة في اللاوعي تلك التي جعلتنا نقف بجوار لافتة تحذير كبيرة خُط عليها بثلاث لغات (من أسباب أمنية، النزول من الطريق الى الجانب الشرقي والوجود على الشاطئ ممنوع).
لم يكن مسرح الإدارة المحلية في أريحا أفضل حالاً من أهلها، جسد مرهق ومتآكل لكنه يضج بالحياة والتحدي، احتشد الجمهور هناك ليجعل من تلك الليلة واقعة متفردة اتقدت فيها ذواتنا الجريحة أو كما وصفتها جريدة (الأخبار) المقدسية في المقالة النقدية التي نُشرت في عددها رقم 210 والصادر في 27 أبريل 2007 (مسرحية جلغامش ـ خلف القناع السويدي ذاتٌ عراقية جريحة) بقلم نجوان درويش، كان من بين ما جاء فيه (ظلت الساحة الفلسطينية معزولة عن الانتاج المسرحي العربي، وعقب اتفاقية أوسلو تسرب بعض المسرحيين العرب، مخرجون مغاربة مثل الطيب الصديقي الى الساحة الفلسطينية، في أعمال انحسرت سريعا... إن وصول عمل عربي أو نصف عربي يشكل حدثا هنا... كان أداء سفين كريسترسون لافتا، إذ استطاع أن يحمل عملا بهذا الغنى والتشعب وتعدد الأصوات، كل ذلك في فضاء سينوغرافي متقشف وسرد "أمين" ... وبدأ العزف المرافق الذي يمزج أنواعاً مختلفة من الموسيقى من البوب والروك إلى ما يسمى موسيقى العالم متوائما مع الرؤية الإخراجية التي أضفت روحية عراقية شعبية على الملحمة التالريخية).
زرنا بيت لحم وغرقنا هياما بحميميتها الساحرة، لكننا لم نتمكن من استحصال الموافقة لتقديم عرضنا المسرحي هناك وكنا نأمل أن يثري ذلك العرض رحلتنا التي تنوعت فيها أيامنا لتحاكي تجليات القدس وتمظهراتها عبر أجيال متعاقبة مما جعلها معلما راسخا في وعينا العربي، فكيفما نمر وعبر أي أتجاه نسلك لا بد لثقافاتنا أن تُعرّج على القدس بوصفها نقطة التلاقي ومهبط الروح القدس ومعراجها السامي، ولا بد من الاشتباك مع أسئلتها الشائكة والاكتواء بلظى نيران نزاعاتها ومتغيراتها السياسية والفكرية والدينية في إطار وجودها المحلي والأقليمي والعالمي سعيا لنكش الصدأ الذي غطى ضمير العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1. فرانسوا أبو سالم، أحد أهم رموز المسرح الفلسطيني، كان والده الشاعر والجرّاح الفرنسي لوران غاسبار مديرا للمستشفى الفرنسي في القدس. درس المسرح في فرنسا وعمل مع المخرجة آريان موشكين في مسرح الشمس لكنه عاد واستقر في القدس وأسس فيها فرقة مسرح الحكواتي والمسرح الوطني الحكواتي، زار السويد بصحبة فرقته وقدم رؤيا فلسطينية لملحمة كلكامش سبتمبر 2007. أنهى حياته منتحراً في 2011 وترك رحيله فراغاً واثراً موجعاً.
2. الليمبو Limbo: هو المكان الذي تذهب إليه أرواح من ماتوا ولم يتم تعميدهم، وقد ورد ذكره في الكوميديا الإلهية لدانتي.
3. سفين كريسترسونSven Kristersson مؤلف موسيقي ومغني وبروفيسور في المدرسة العليا للفنون الموسيقية ـ جامعة لوند ـ السويد والممثل الرئيسي في المسرحية.
4. فريدريك ميير Fredrik Myhr عازف درامز ومؤلف موسيقي قدم عروضه في السويد والنرويج وإنكلترا، لعب دور عازف طبول في الفيلم القصير الحائز على جائزة Guldbagge موسيقى لشقة واحدة وستة عازفي طبول، والذي شارك أيضاً في مهرجان كان السينمائي عام 2001.
{كاتب ومخرج مسرحي مقيم في السويد}