إحسان العسكري
لا عجب أن يتنازل الملوك عن عروشهم ويتخلينَ الأميرات عن تيجانهن وتذهب كل الاعتبارات والمناصب أدراج الرياح حتى يبدو كل شيء متساوياً.. فلا منصب أو شهادة، ولا جاهاً أو مالا، و لا أي شيء يمكن للإنسان أن يتعالى به أو يميزه. لأنه وقع في شباك من لا يرحم (إن جاز ليَ القول) فالحب هذا الشيء الذي لا تفسير يمكن أن يحلل محتواه، ولا وصف يمكن أن يجمل ماهيته، فمنذ عشق الإله ديموزي (تموز) للإلهة أنانا (عشتار) ما زال الحب خالداً خلود الحياة. الحب الذي زين الإنجيل بـ تسع وتسعين مرة، والقرآن الكريم ست وسبعين مرة وحياتنا ملايين المرات، يحتفل به العالم بمناسبة تشرك فيها البشرية جمعاء منذ عشتروت وأفروديت وتموز إلى يومنا هذا.
لم يكن القديس فالنتاين يخطط لأن يكون موته عيداً، وأكاد أجزم أنه لم يفعل ما فعله لشيءٍ ما، سوى بحثه عن الحب فكان سبيل نهايته وخلوده حين أُلقي في السجن بتهمة تزويج الجنود في السر بعد أن منعته السلطات الرومانية من هذا الفعل، كأن سجنه مفتاحاً للباب الذي أفنى حياته باحثاً عنه، فبسبب الحب سُجن وبسببه قُتلَ بعد أول رسالة أرسلها لحبيبته (ابنة سجانه) صبيحة يوم الرابع عشر من شباط عام 269 للميلاد، حين وجد القديس فالنتاين حبه وخلوده على يد ابنة عدوه .
علاقة عيد الحب أو الحب بالحياة لا تنفصل عن علاقته بالجمال والذوق والإحساس، ومن ثم فهو الأقرب للأدب والشعر والجمال، إذ إن أول من سن الاحتفال بعيد الحب هو الشاعر الإنجليزي جيفري تشوسر والذي عاش قبل شكسبير بأكثر من مئة عام.
كتب الشعر الهزلي وأبدع فيه، ولم تكن كتاباته عن الحب بقدر هزلياته، لكنه كان أول من أسس لهذا الاحتفاء بهذه المناسبة.
وليس بعيداً عن قلوب الانجليز وهوسهم في الحب كان أمير وليز إدوارد ألبرت أول ملك يتنازل عن عرشه من أجل الحب حين وضع بعد أصبح بعد اعتلى عرش المملكة المتحدة بين خيارين أما حبيبته أو عرشه، فاختار واليس سبمسون حبيبته الأميركية المطلقة التي كانت زوجة صديقه ضابط البحرية الأميركي آرسنت سيمبسون.
وبالعودة لعلاقة الشعر والأدب بالحب، كان أول من أسس له وخلّده هم الشعراء العرب ابتداءً من ملك كندة أمرؤ القيس مروراً بجميل بثينة وكثير عزة ولم يتوقف عن عنترة العبسي، كما ولم تقف أفكار وتطلعات محمود درويش حائلاً بينه وبين عشق حبيبته اليهودية ريتا، حتى ألّف فيها الدواوين في حين عبر نزار قباني الحدود السورية عشقاً لبلقيس العراقية.
وما يزال الشعب المصري يحتفل بعيد الحب مرتين دوناً عن بقية الشعوب استناداً لمقالة كتبها مصطفى أمين تحولت إلى رواية في ما بعد عن قصة حب يقال إنه "عاشها فاحتفل المصريون معه وما يزالون في الرابع من تشرين الأول، ولم يكتفوا بهذا، بل تيمناً بعيد الحب وعلاقته بالمرأة يحتفلون أيضاً بعيد المرأة مرتين في الثامن من آب والسادس عشر منه.
إن الشعوب التي تحترم كيانها تحتفل بسبب وجودها دونما تكلف وتقف دائماً بوجه الظلام والعداء للإنسانية، ومن هذه الشعوب شعبنا العراقي الذي آلا إلا أن يحتفي بالحب بصخب ووضوح، وهذا من حقنا كبشر سواء كان المؤسس مسيحياً أو يهودياً أو كافراً، فبالحب تحيا الأمم تزدهر وتنمو وتتعايش البشرية باختلاف أجناسها وعقائدها وألوانها وأفكارها، فهو الوحيد القادر على جمع النقيضين تحت سقفٍ واحد إذ يجمع الكهولة بالشباب والعكس فهو لا يعترف بمسميات العمر والشكل والفحوى، بقدر اعترافه بوجوده مستقلاً منيراً في أحلك الظلمات وأشد الظروف قسوة، فلا تمنع حربا ولا تؤخرهُ مسألة، ولا تحاربه فتوى إلا وخرجت خاسرة من النزال الأول.
هل يستمر الحب على وفق معطيات حياة نعيشها؟، سؤال يطرح نفسه بقوة
وإجابته بنعم مثلما أُنشئت الجنائن المعلقة في بابل، وتاج محل في الهند تقديساً للحب وتقديراً له، سيستمر ولن يتوقف طالما تنبض القلوب به وتتزين اللحظات بذكره ويكتب الشعراء له، لن يتوقف طالما أن المرأة موجودة والرجل حي، لن ينتهي طالما آمنا به واعتبرناه سبيلنا إلى السماء، ومنهاجنا على الأرض، ومدعاة سعادتنا، ومنتهى آمالنا في الدنيا ووسيلة خلاصنا في الأخرى.. فالأديان محبة والله محبة والحياة محبة والكتابة محبة والقراءة محبة والجمال محبة والحياة حب بين قلبين ائتلفا واتفقا دونما تخطيط وتمكنا من بعضهما دونما صراع.. وهذا هو لب موضوعة الحب، فتحية للمحبين
في عيدهم وللحب في ذكراه ولوطنٍ أحبه شعبه.