إدوارد سعيد يفضحُ جرائم الصهيونيَّة ما قبل 1967 وما بعدها

منصة 2024/02/15
...

 د. نادية هناوي

كان لكتابات ادوارد سعيد دورٌ مهمٌ في تعريف الأوساط الغربية بالقضية الفلسطينية، أولا بوصفه مفكرا مرموقا وباحثا أصيلا في تلك الأوساط، وثانيا بوصفه عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني وأستاذا زائرا لمدة من الزمن في مؤسسة الدراسات الفلسطينية ببيروت. وهذا ما منحه فرصة واسعة للاطلاع على مجمل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية من زاويتي نظر مختلفتين.

ولم يكن العمل الذي قام به في ما ألفه ونشره من أبحاث ومؤلفات حول فلسطين والفلسطينيين باليسير، فلقد اعترضت طريقه معوقات عدة، لكنه مثل أي فلسطيني يؤمن بعدالة قضيته، كان يتسلح بالإرادة في مواجهة الغطرسة والتشويه وطمس الحقائق عن الراي العام العربي والذي كانت تقوم به مؤسسات كارتلية صهيونية، وعن ذلك يقول: (إن ما كنت أبحث عنه هو مشروع صعب وكثيرا ما يثبط العزيمة ويواجه بمعارك. إن الفلسطينيين يعرفون عقلانيا أن الاحتمالات ضدهم لكن ثقتهم في عدالة قضيتهم وصدقها ترسم صورة أكثر إشراقا. انه كما قال غرامشي: تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة- كتابه القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 1980، ص132). فجرائم الصهيونية بحق العرب شائنة وتاريخها طويل لكن الإرادة الفلسطينية تتغلب على ذلك كله دوما. وهو ما يتأكد كل يوم أمام أنظار العالم بدفاع الفلسطينيين عن وجودهم، مؤكدين أن ليس ممكنا محوهم أو إبادتهم. وفي القسم الرابع من فصله الأول يقف ادوارد سعيد عند جرائم الصهاينة وكيف صادروا بطريقة سافرة وفظيعة حقوق الشعب الفلسطيني. يقول إن: الاستحالة المطلقة في إيجاد مساحة للتحدث باسم الفلسطينيين هائلة في الواقع، وكل تصريح يصدر باسم إسرائيل يزيد الضغط على الفلسطيني كي يلتزم الصمت ويقبل بالقمع ومن ثم يكون مشروعا ومقبولا أن تكون إسرائيل هي الفاعلة، فانك تجد في كثير من الأحيان مقالات لإسرائيليين عن إسرائيل متداولة على المستوى العام، ولكن نادرا ما تجد مقالات لعرب يتحدثون عن أنفسهم. وهذا ليس فقط تفاوتا عدديا فادحا بل له علاقة كبيرة بالفرق ما بين المجتمعات العربية واليهودية المقيمة في هذا البلد. وهو أيضا تفاوت نوعي فخلال حرب 1973 على سبيل المثال نشرت مجلة نيويورك ساندي تايمز مقالا أسبوعيا بقلم محامي إسرائيلي حول سؤال: بماذا تشعر حين تكون في حالة حرب؟ في الأسبوع الثاني كانت هناك صيغ مماثلة على الرغم من أنها كتبت من قبل سفير الولايات المتحدة السابق في سوريا. ومتى ما كان للصوت العربي أن يُسمع، فإن من المعتاد اختيار هذه الطريقة كي تترك قدرا اقل من الانطباع، كما قلت آنفا، تجاه تمثيل وجهة النظر العربية، ولا فرق إن كانت من لدن خبير غربي أو مسؤول عربي رسمي.
خلال العقد الذي تلا عام 1967 زار إسرائيل عدد كبير من الشخصيات المعروفة، وفي ما يتعلق بالكتّاب كان من بينهم من كتب انطباعاته. وأحدث مثال على ذلك سول بيلو ومن بين الآخرين ستيفن سبيندر، وفرنسين دو بيليسكس جراي، وريناتا ادلر، وغاري ويلز. بعد عام 1967 - على عكس المدة التي كتب عنها ادموند ولسون- لم يكن من الممكن تجنب او تجاهل الأراضي المحتلة وما فيها من العرب. وبالتالي فان كل رواية كتبت عن زيارة إسرائيل تتضمن شيئا عن الفلسطينيين وفي كل الأحوال، فان التعامل مع العرب كان يتم من خلال خبير عربي إسرائيلي وعادة ما يكون ضابطا استعماريا في شكل شخصية أكاديمية ذات خلفية في الاستخبارات العسكرية. وفي هذا الصدد كان بيلو وسبيندر متشابهين تماما في إنسانيتهما الليبرالية وقلقهما بشأن انتهاكات الديمقراطية الإسرائيلية "المحتملة" من لدن قواتها المحتلة ولكن حديث الخبير عن "الواقع العربي" خفف من قلقهم على القيم الإنسانية وطمأنهم إلى الديمقراطية الإسرائيلية. وفي المقابل فأن هذه النظرة إلى العربي الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة من ناحيتي: ماذا يريد؟ وكيف يشعر؟ ستؤكد أن الأمر شبيه بإرسال ضابط أبيض خبير بشؤون السود ليحدث مثقفا غربيا زائرا بما كانت تشعر به الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا، وما كانت تريده حقا. وبالطبع سيتم رفض مثل هذا التحريف باعتباره أمرا لا يصدق، فكتابة بيلو  عن زيارته إلى القدس تستمد قوتها من هذا النوع المقبول والمشروع من التمثيل!.
لا يعني ذلك أنه لا يوجد دليل على ما يحدث بالفعل داخل إسرائيل، فقد علق العديد من الاسرائيليين الذين زاروا الولايات المتحدة على ان الفارق الرئيس بين الاسرائيلي والامريكي المؤيد للصهيونية هو ان الأخير اقل صراحة وانفتاحا من الأول حيال إسرائيل ومشكلتها مع العرب. إن إسرائيل والصهيونية في الولايات المتحدة (وهذا الآن اقل صحة بالنسبة لأوروبا) يكاد يكون مقدسا فتتم مناقشة تأسيس إسرائيل في عام 1948 بنَفَس مكتوم على مستوى عال من التخطيط كما في "خطة مارشال" .
وتراقب المجتمعات الفكرية والأكاديمية -ناهيك عن صناع الإعلام- الممارسات المتعلقة بإسرائيل وما يدور من كلام حولها ولا يمكن مقارنتها بأية قضية أخرى. فعند سقوط القبعة في عام 1974 و 1975 وقعَّت شخصيات بارزة في الفن وفي الحياة العامة والحياة السياسية ومن منظمه اليونسكو على بيانات احتجاج تنص على طرد إسرائيل باعتبارها شكلا من أشكال العنصرية ولم يكن لأحد - نعوم تشومسكي هو الصوت الوحيد بقدر ما تمكنت من تحديده- ان يقول أي شيء عما حدث وما زال يحدث للعربي الفلسطيني على يدي الصهيونية وإسرائيل حيث أن الاساليب المختلفة التي تمارس ضد (غير اليهود) في أماكن أخرى في إسرائيل لا يمكن تمييزها إلا بوصفها أشكالا من الاضطهاد العنصري. وبدلا من ذلك يمكن للمرء أن يشاهد دانييل باتريك موينيهان وهو يهاجم النذالة ويدافع عن الحرية والأخلاق التي عليها إسرائيل والصهيونية. ان تعريفا اجتماعيا للسبب او لما يجب ان يكون عليه معنى (القضية) سيسقط حتما في حالة إسرائيل اليوم او في الأقل بما تكونه كموضوع للنقاش.
ولن يبقى أي ليبرالي صامتا وهو يدافع عن قضية حقوق الإنسان في الاتحاد السوفيتي أو تشيلي أو افريقيا ولكن عندما يتعلق الأمر بامور مماثلة في إسرائيل، فان هناك صمتا شبه كامل. إن أي جهد في طرح مسائل الحكم العسكري والانتهاكات المصاحبة له وانتهاكات حقوق الإنسان في اسرائيل، تقاوم بعناد كي لا تصبح
قضية.
وهذا أمر لافت للنظر بشكل خاص في الحالات التي تكون فيها المصادر التي يستشهد بها إسرائيلية أو تعود لعدد قليل جدا من منتقدي إسرائيل. ومنذ سنوات تقوم رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية بنشر معلومات حول مسائل مثل هدم منازل العرب ومصادرة أراضيهم ومعاملة العمال العرب بدونية والتعذيب والاحتجاز غير القانوني للعرب وجميع الحالات موثقة بشكل أساس من خلال ترجمة المقالات في الصحف الإسرائيلية، ولكن لا يرى أي من هذه العناصر النور في الولايات المتحدة. ليس بسبب عدم ارسالها إلى المحررين وكتاب الأعمدة التلفزيونية والليبراليين البارزين وما إلى ذلك، بل بسبب تحريف العشرات من الخدمات الإخبارية الإسرائيلية والنشرات الإخبارية والمجلات الفصلية التي تغطي معاملة الفلسطينيين العرب داخل اسرائيل في ما قبل عام 1967 كما ان تقارير الأمم المتحدة عن الأراضي المحتلة التي يكتبها مراقبو الحدود وخطوط الهدنة التابعون للأمم المتحدة وتقارير الوكالات الدولية مثل منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر والدراسات العربية والعربية الأمريكية، هذه كلها لا يصل منها شيء إلى الولايات المتحدة على الرغم مما فيها من نطاق واسع للتوزيع والنشر.  احدث أعمال الاستغفال المتعمد والأكثر غرابة من جوانب عدة يتعلق بتقرير insight  الذي نشرته صحيفة سانداي تايمز بتاريخ 19 يونيو 1977 حول التعذيب في إسرائيل باستخدام سلسلة شاملة من تقنيات التحقيق وكشفت التايمز ان تعذيب العرب هو وسيلة منتظمة ومنهجية ومعتمدة رسميا في اسرائيل وأن مئات العرب يتعرضون للاعتقال والتعذيب. إن الأدلة مقنعة تماما بأن الدولة تتغابى عن هذه الممارسات كوسيلة لتخويف ومراقبة وترويع السكان الاصليين في الاراضي المحتلة. وما من صحيفة أو مجلة أمريكية كبرى- باستثناء بوسطن غلوب -  أو برامج إخبارية أسبوعية او تلفزيونية، تذكر أو تهتم بتقارير منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر وغيرها من الوثائق. وفي خضم هذا التقصير الفاضح في نقل المعلومات تأتي إشارة نيكولاس فون هوفمان على نحو ملائم: (وعلى اقل تقدير يجب على السلطات الإسرائيلية أن تدرس القضية المرفوعة ضدها- بحسب تقرير صحيفة سانداي تايمز حول التعذيب الذي تمارسه السلطات الإسرائيلية- وأن تتوصل إلى شيء أكثر إقناعا من البيان الذي اصدرته سفارتها في لندن والذي قال ببساطة:  لقد تكررت مزاعم من هذا النوع من قبل مصادر الدعاية العربية في السنوات الأخيرة وثبت أنها لا أساس لها من الصحة على الإطلاق في ضوء التحقيقات التفصيلية والموثقة. إن الشتائم والاعتماد على التحقيقات التي تجريها اسرائيل لتبرئتها، لن يجدي نفعا إزاء المفارقة البشعة المتمثلة في استخدام الغاز كأداة للتعذيب. كان ينبغي أن تكون ملزمة حتى بالنسبة للمسؤولين الإسرائيليين الذين يعتقدون انهم بتعاملهم مع البشر بهذه الطريقة سيتمكنون من تعزيز قضية الديمقراطية).
معظم الأمريكيين لا يعرفون أبدا أيا من هذا  حتى الآن، رأت صحيفة واحدة فقط (بوسطن غلوب) أنه من المناسب نشر التقرير. ولا ترجع اللامبالاة إلى الشك في قدرة الصحافة على أداء دورها. إذ يحظى فريق ساندي تايمز (insight) الذي كتب القصة باحترام في هذا المجال.
ولكن يمكن فهم عدم الاهتمام بهذه المناسبة من خلال التغطية التي قامت بها صحيفة نيويورك تايمز حول التحقيق في التعذيب بمقالة مكونة من 86 كلمة فقط تظهر في صفحتها رقم 13. وإلى حد ما، فان كل الأخبار في أمريكا، كما تسميه صحيفة نيويورك تايمز أخبارا، هي أجنبية لذلك فان عددا قليلا من محرري المطبوعات والإذاعة قادر على إصدار أحكام مستقلة على هذه الأخبار. لأنهم ببساطة يفتقرون إلى الشخصية والامكانية التي تمنحهم تشكيل رأي خاص بهم فيفضلون الأمان في السماح للصحيفة المرموقة في البلاد باتخاذ القرار نيابة عنهم. وهذا أمر سهل بشكل خاص مع قضية مثل إسرائيل حيث المرجح ان تؤدي أية دعاية سلبية إلى إهانة رئيس التحرير من قبل اللوبي الأفضل تنظيما في البلاد لكن الأمر لا يسير بهذه الطريقة في الخارج حيث تكون وسائل الإعلام اقل تحيزا بكثير من وسائل الاعلام في الديمقراطيات الأخرى.
في حاله نشر تقرير أو عمود عرضي مثل تقرير فون هوفمان أو حصوله على القليل من الاهتمام فأن ندرته وعزلته - والتي تأتي من غياب السياق أو التقليد تجعله يفتقد أية فاعلية – هي من قوة الوعي بتقاليد الخطاب المتماسك ما بين إسرائيل والرأي الليبرالي والتي تكمن في أن حضوره المؤسسي المطلق يبدد أي دليل على عكس ذلك ويتجاهله باعتباره غير ذي صلة وأكثر من ذلك يمكنه تحويل ما يتوقع المرء أن يكون تحديا مدمرا إلى دعم. خذ على سبيل المثال انتخاب مناحين بيغن الذي عرف بانه ارهابي لسنوات وسنوات ولم يبذل أي جهد لإخفاء الحقيقة وكتابه (الثورة) يمكن العثور عليه في أية مكتبة جامعية أو اعتيادية متوسطة الحجم هي جزء مثالي من الصورة القياسية في الشرق الأوسط. في هذا الكتاب يصف بيغن إرهابه - بما في ذلك المذبحة الجماعية للنساء والأطفال الأبرياء - بالغزيرة و(المخيفة) ويعترف بمسؤوليته عن مجزرة نيسان/ ابريل 1948 التي راح ضحيتها 250 امرأة وطفلا في قرية دير ياسين العربية ومع ذلك فبعد اسابيع قليلة من انتخابه في مايو/ أيار 1977 ظهر في الصحافة وقد نسي ارهابه وصار رجل دولة يقارن مقارنة ضمنية بشارل ديغول. وهنا لا يمكن القول بان الأدلة على إرهاب بيغن قد تم حجبها بل هي موجودة ودائما أمام أي شخص يناقش اسرائيل الحديثة ويبحث بانتظام (في الفروق التي تم اجراؤها على سبيل المثال بين بيغن وديفيد بن غوريون أو جولدا ميئر اللذين كان من المفترض أن يكونا رجل دولة) ومع ذلك فإن الاجماع على أن زعيم اسرائيل هو ديمقراطي وغربي وغير قادر على ارتكاب الشرور المرتبطة عادة بالعرب والنازيين (وهو ما يفترض في نهاية المطاف أن اسرائيل قامت بنفيه بسبب وجودها) بدا قويا للغاية لدرجة أن مثل لقمة غير قابلة للهضم يتحول بيغن إلى مجرد رجل دولة إسرائيلي آخر(ومنحته جامعة نورث ويسترن درجة الدكتوراه الفخرية عام 1978 وجزء من جائزة نوبل للسلام تتويجا لكل ذلك) على وجه التحديد هؤلاء الليبراليون الذين يكشفون عن الأسباب ويعرفون الفظائع والانتهاكات، التي تجري في كل مكان ليس لديهم ما يقولونه عن بيغن أو عن التعذيب في اسرائيل أو سياسات الضم التي لا يمكن ايقافها بكل معنى الكلمة في دولة إسرائيل. وينطبق الشيء نفسه على الفلسطينيين كلاجئين، وهناك بعض الخلاف حول عدد الفلسطينيين الذين اجبروا على الخروج من
بلادهم وأراضيهم خلال عام 1948 وتتراوح الأرقام بين 500,000 و 800,000 حتى أن المصادر الإسرائيلية تعارض الأرقام وليس النزوح نفسه، ومع ذلك فان هناك اتفاقا تاما الآن على إبعاد اللاجئين).