مستقبلُ الخيالِ الروائي
سول بيلو
ترجمة: د. فارس عزيز المدرس
حرَّر هذا المقال بنجامين تايلور؛ واقتبسه من كتاب سول بيلو: (هناك ببساطة الكثيرُ مما يجب التفكير فيه)، الذي كتبه بشأن القلق على مستقبل الرواية. وبيلو كاتبٌ كنديٌّ الأصل، حصل على جائزة بوليتزر، وجائزة نوبل للآداب، ويعد الوحيد الذي نال جائزة الكتاب الوطني ثلاث مرات. ولد في 1915 وتوفي في 2005. نعلم أن للعلم مستقبلا؛ لكن من غير المتفق عليه أن الرواية ليس لها سوى الماضي. وهناك من يقول إن الروائيين العظام في القرن العشرين أنتجوا روائعَ عقيمة، وأننا وصلنا إلى نهايةِ السطر، ومن غير الممكن تحقيق المزيد من التقدم!.
يبدو أحيانا أنَّ السردَ قد اضمحلَّ، ورحلت الشخصيةُ التي عرفناها في مسرحيات سوفوكليس وشكسبير، وسرفانتس وبلزاك. وبدلاً مِن الشخصيةِ الوحدوية، وطموحاتها، وروحها؛ نجد في الأدبِ الحديث مخلوقاً مشتتاً، غيرَ واضح، فهذا شخصٌ تكعيبي، وآخرُ برجسوني، وذاك لا أدْري، أبدي، ينغلق وينفتح مثل آلة الكونسرتينا ويصنع موسيقاه الغريبة. وما صدم الفنانين في هذا القرن هو أنَّ أوصافَ الذاتِ التي لا تزال تسيطر علينا مكونةٌ من السِمات الوحدوية التي سُجِلتْ وفقاً للأنساق القديمة، وما نصِرُّ على رؤيته ليس فوضى منظمة وغريبة في الغريزة والروح فحسْبُ، بل ما نختار أنْ نطلق عليه “الشخصية”، شخصٌ ذو مظهر أنيق يرتدي ملابسَ لائقة، أو شجاع، أو وسيم، أو ليس وسيماً جداً؛ لكنه قويٌ.
مِن بين جميع الكُتاب المعاصرين، فإنَّ دي إتش لورانس هو الأكثرُ عداءً للنمطيةِ ذات الطابع الوحدوي. ولديه أنَّ شخصيةَ الإنسان المتحضر غيرُ موجودةٍ. وما يُسمى بشخصيةِ الإنسان المتحضر هي نِتاج التعليم المتدِّن، واللباس، والأسلوب، والثقافة، ورأسُ هذه الشخصيةِ الحديثة عبارةٌ عن سلَّةِ مهملاتٍ مليئةٍ بالأفكار الجاهزة.
إنَّ الشخصية الحديثة في شارع، أو في قصةٍ أو فيلم هي ما وصفه أحدُ علماءِ الاجتماع بذاتٍ “استعراضية”. والهجومُ على الشخصيةِ من خلال الفنِ الحديث جزءٌ من الحربِ التي خاضها الأدب؛ في عنايته بالفرد. والفردُ المتحضِّر يفتخر بحجَرِ الرَّحى الملون في عنقه، وهو العبءُ الذي يعتقد أنه يمنحه التميُّزَ. وهو في نظر الفنانِ شخصيةٌ وقِحة وفقيرة ومُنتجة بكميات كبيرة، جاءت إلى الوجود من خلال حضارةٍ تحتاج إلى قِوى عاملة، وموظفين، وجمهورٍ مطيع يقبل الإملاءاتِ والسيطرة.
إنَّ الشخصيةَ الوحدويةَ القديمة التي لا تزال تظهر في قصص المجلاتِ الشعبية، والكتب التقليدية، والرسوم الكاريكاتورية، والأفلام تنحدر من أنماطٍ بالية، وتستمر أشكال الفن الشعبي (مثل الرواية الغامضة والأفلام الغربية) في الظهور، مستغلةً ما لا نهايةَ من الأفكار الباهتة عن الدوافع والدراما أو الحبِ والكراهية. بينما تتحرَّك الشخصياتُ القديمة بشكلٍ طقوسي؛ ولها أحياناً اختلافاتٌ في المكان والأزياء، لكنها تبتعد عن الواقع الحقيقي.
ربما تكون الوظائف التي تؤديها هذه النتاجاتُ الأدبيةُ رائعة لعالمِ نفسٍ إكلينيكي قادرٍ على التعرف من خلالها على عُصاب وسواسي، أو خيالٍ مصاب بجنون العظمة، لكنَّ الكاتبَ الذي نشأ في تقليدٍ أدبيٍّ عظيمٍ يرى في هذه القصص وسائلَ ترفيهٍ مخدرة، أو غسيل دماغ، وتولّد رذائلَ غريبة، كما أنه يخشى أنْ يكونَ فنُ الروايةِ قد وصل إلى نهايته، واستنفد مفهومه عن الذات.
ولهذا السبب تخبرنا ستاين في إحدى محاضراتها أننا لا نستطيع قراءةَ الرواياتِ العظيمة للقرن العشرين، ومن بينها روايتها «صناعة الأميركيين»، و “عوليس”، و”ذكرى الأشياء الماضية”، و”الجبل السحري”، فـ “صناعة الأميركيين”، لا تستوعبنا فيما سيحدث. إنها تهمُّنا في مشهد ما، في حوار، مزاج، في الكشف عن تصميم ما، لكنها ليست روايات. ويتجنَّب عوليس أيَّ شيء يشبه القصة المعتادة، إنه إلى حدٍّ ما كِتابٌ عن الأدب؛ يقدم لنا تاريخَ أسلوبِ النثر الإنجليزي. إنه متحفٌ يحتوي على جميع الدروع الغريبة والأقواس بنوعٍ من السخرية والمحاكاة الساخرة المسلية. هذه الأشياء التي فتنتنا ذات يوم؛ كالتسامي القديم، والمراوغات، والأسلحة القديمة، كلها عديمةُ الفائدة الآن؛ إنها قطعٌ مِن الحديدِ كانت بطوليةً ذات يوم، وأحضان العشاق الرومانسية، أفسدها الاستغلال الرخيص، وكلُّها غير صالحة. يقتبس إريك هيلر في كتابِه الأخير ملاحظةً نموذجية لهوجو حول عدمِ كفاية أشكالِ التعبير القديمة، ويكتب قائلا: «العناصر التي كانت مرتبطةً ببعضها البعض لتكوين عالم تقدُّمٍ؛ هي الآن في انفصال وحشي، والتحدث عنها بشكلٍ متماسك بمثابةِ التحدثِ بشكل غير صادق. وتبدو العباراتُ الشائعة اليومية ألغازاً غيرَ قابلةٍ للحل.
وتظهر هذه الصيغ على أنها “تفتقر إلى صفةِ الحقيقة”، ويوضح أنه غيرُ قادرٍ على رؤية ما يقوله الناس ويفعلونه بعين العادة والعرف. وكلُّ شيء يتداعى، ولا يمكن فهم أيِّ شيء بعد الآن مِن خلالِ المفاهيم المعتادة. وأصبحت الشخصيةُ واللغة موضع شك. يقول الفيلسوف الإسباني أورتيجا جاسيت: إنَّ الروايةَ تتطلَّب بيئةً محلية ذات آفاقٍ محدودة وسمات وتقاليد ومهن وطبقات مألوفة. ولكن هذه العوالم المحليةَ القديمة لم تعدْ موجودةً، وتفشل في إثارةِ عنايةِ الروائي، كما نراها في جين أوستن أو جورج إليوت.
لقد تجاوز العالمُ مجتمعاتِنا المعاصرة والتهمَ المدنَ الكبرى، وانهارت الأمورُ؛ كما يقول دي إتش لورانس، ويجب على كلٍّ منَّا أن يكوِّنَ نوعاً من الحياة. ويقدِّم نوعاً مِن التصوف الطبيعي والحبِ بدون رومانسية زائفة، وقبول الرغبة الحقيقية كمبدأ للتعافي.
إنَّ جميعَ الروائيين المعاصرين الجديرين بالذكر يهدفون إلى نقطةٍ تتجاوز المفاهيم المألوفة العرفية للشخصية، والفكرةُ القديمةُ عن الذات المعتادة، عن مصير “الأنا” ذاتُ الأهمية القصوى لا تُرضيهم. لقد عشنا عدداً لا يحصى من النجاحات والإخفاقات لهذه الشخصيات القديمة.
لم يعد نطاقُهم العقليُّ مناسباً لهذه الظروف، وهذه الشخصيات تناسبُنا بشكلٍ أفضلَ نحن الذين نقف خارج المجتمع، ولا نرغب في التصالح معه. وعلى النقيض مِن أصحابِ الملايين الذين ذكرهم درايزر، لم تعد لدينا رغبةٌ في ثرواتها؛ ولا ننجذب إلى قوةِ الحضارةِ القديمة ومعرفتها.
لهذا السبب يفضِّل الكثيرون الروايات التي تكاد شخصياتُها تكون بعيدةً عن الدولة المدنية. إننا نشعر أنَّ ما يُسمى بالحالةِ المتحضرة قريبٌ مما يسمِّيه هوبز (حالة الطبيعة)، وهي حالةُ حربٍ تكون فيها حياةُ الفرد سيئةً ووحشية ومملة. ولكن يجب أنْ نكونَ حذرين حتى لا ننجرف إلى هذا التشبيه. لقد رأينا بحزنٍ في التاريخ الأوروبي الحديث؛ لاسيما التاريخ الألماني نتائجَ محاولةِ الابتعاد عن التقاليد الحضارية والقانونية.
لكنْ بالنسبة لنا هنا في أمريكا، يتمثَّل الانضباط في القمْع القسري. نحن لا نعرف الكثيرَ من مسرات الانضباط. ولا يجري جلبُ أي شيء ذي طابع روحي نبيل إلى الحياة الداخلية للأمريكي، بل يجب على الإنسان اكتشافها من خلال تجربته الخاصة، أو لا يكتشفها على الإطلاق، فالمجتمع يُطعمه، ويلبسه، ويحميه إلى حدٍ ما، فإذا قبِل حالةَ الطفولة فيمكن أنْ يكون راضياً. ولكنْ إذا خطرت له فكرةُ الوظائف العليا، فإنه يشعر بعدمِ الاستقرار.
إنَّ العالمَ الجائع يندفع في كلِّ القارات نحو هذا الرضا، مع عدم التعبير عن المطالبةِ بالعدالة بصوت عالٍ أبداً. لكنَّ الفنان، والفيلسوف، ورجل الدولة يهتمون بالتطور الكامل للإنسانية التي نلمحها أحيانا في تاريخنا.
إنَّ الناسَ ما يزالون يواصلون كتابةَ الرواية، وعندما أشعر بالإحباط أكاد أقتنع بأنَّ الرواية، مثل صناعةِ السِلال الهندية فنٌ أثريٌّ ليس له مستقبل. ولكن يجب أنْ نحذر بشأن النبوة المبنيّة على دراسةٍ تاريخيةٍ جيدة تشكل عملاً محفوفاً بالمخاطر، ومِن الممكن أنْ يتحوَّل التشاؤمُ، مثله مثل التفاؤل إلى ابتزاز.
إنَّ جميعَ المجتمعاتِ الصناعيةِ لديها شيء يتعلَّق بالتقادم. لقد أُعلن في عصرنا أنَّ الطبقاتِ والأجناس والثقافات قد عفا عليها الزمن، مما أدى إلى نتائجَ جعلت عصرَنا من أفظع العصور، لذلك يجب الحذرُ عندما نقرِّر أنَّ أي فنٍ قد مات. وهذا ليس قراراً صادراً عن هيئةِ محلفين مِن النقادِ، فعددٌ كبيرٌ من الروائيين، بما فيهم الذين ركزوا على الكراهية، مثل سيلين، أو على اليأسِ مثل كافكا، استمروا في أداءِ الوظيفة الأكثر أهمية. لقد حاولوا تنظيمَ الخبرة، وإعطاء القيمة، وتكوين منظور حمَلنا نحو الأشياء التي تمنحُ الحياة. لكنني أجلس الآن لأقرأ توبيخاً آخر للروائي الحديث كتبه مديرون يتقاضون رواتبَ عالية في مجلات بملايين الدولارات. ويدعون إلى تمثيلِ البلاد تمثيلاً عادلاً، وزيادةِ هيبتها في هذه الزمن الخطير!.
ما هي الأفكارُ التي يمتلكها الروائي، ومن أين يحصل عليها وما فائدتها في الفن؟، لقد تحدثت عن اعتقاد لورانس بأننا يجب أنْ نبني حياةً لأنفسِنا للخروج من الحطام. وفي رأيه فإن غرق السفينة واحدة ليس شراً خالصاً. إنها تحررنا. وإذا كانت لدينا القوةُ لاستخدام حريتنا؛ فقد نصل إلى علاقةٍ حقيقيةٍ مع الطبيعة ومع الآخرين. ولكن كيف لنا أنْ نصل إلى هذه الغاية؟. يقترح لورانس نوعاً من الإجابة في رواية عاشق الليدي تشاترلي، حيث يُظهر لنا شخصين بمفردهما وسط النفايات.
أشعر أحياناً أنَّ عاشق الليدي تشاتيرلي نوعٌ من روبنسون كروزو، يستكشف المواردَ الجنسية للرجل؛ بدلاً من براعته التقنية. إنها رواية أخلاقية مثل رواية كروزو. وبالقدر نفسه من الجدية مثل روبنسون كروزو، والفرقُ أنَّ لورانس كان يهدف إلى كتابةِ هذا النوع من الكتب. ولتحقيق هذه الغاية؛ شكّلَ حياتَه التي كانت بمثابةِ أرضَ اختبارٍ لأفكاره. فما الفائدةُ من التوصيةِ بمسارِ حياة لم يجربه بنفسه؟.
إحدى طرق تقييم إنجازات الفنانين المعاصرين إنهم يقومون بالتجربةِ بأنفسِهم، وفي بعض الحالات لا يمكن التوصل إلى نتيجةٍ فنيِّة إلا من خلال النتائج التجريبية، ولم يكن لدى لورانس أيُّ مادةٍ أخرى غير ما أعطته إياه حياتُه الوحشية من الأفكار التي اختبرها، وهو لم يختبرها وفقاً لمعاييرَ مقبولة، بل كانت أفكاراً حيوية، ومثيرة، وغريزية. لقد أدخلونا في نوعٍ من التصوّف الطبيعي الذي عدَّ الإشباع الجنسي أساساً للفناء. لكنني لست معنياً بتفاصيل أطروحةِ لورانس، بل معنيٌّ بالعلاقةِ بين الفهم والخيال، والمكانةِ المستقبلية للذكاء في الخيالِ الأدبي.
من الضروريُّ الاعترافُ بأنَّ الأفكارَ في الروايةِ يمكن أنْ تكون مملةً، وهناك الكثير في الأدب الحديث ما يبرر تحيّزنا ضد التعليم. قال شوبنهاور إنَّ الرأيَ ليس صالحاً مثل الخيال في العمل الفني. ويمكن للمرءِ أنْ يتشاجرَ مع رأيٍ أو حكْمٍ في رواية، لكن الأفعالَ خارجَ نطاق الجدل والخيال يتقبَّلها بكلِّ بساطة. وأعتقد أنَّ العديدَ من الرواياتِ أتت نتيجةَ أغراضٍ التعليمية.
إن محاولةَ الكتّابِ صنع مَنظورٍ ومقياس نحو مصادر الحياة هي نيِّة تعليمية؛ تُشرِك الروائي في البرامج، وفي الشعارات، والنظريات السياسية، والدينية. وتظهر النتائجُ في كثيرٍ من الأحيان أنَّ الكتابَ تم تصوُّره في الفكر، في غرض تعليمي، وليس في الخيال، وهذا أمر طبيعيٌّ؛ نظراً لحالةِ الأمور، وانتشار مبدأ الحساب في الحياة الحديثة، والحاجة إلى قواعد إجرائية. والحاجةُ الملموسة إلى الإجابات ليست في الكتب والرسم والمقطوعات الموسيقية فحسبُ؛ ولكن في علاقاتِ الحب والزواج، وحتى المعتقدات الدينية التي غالباً ما تنشأ مِن فكرة؛ بحيث أنَّ فكرةَ الحبِ أكثر شيوعاً من الحبِّ نفسِه، وفكرةُ الإيمان تُقبَل أحياناً أكثر من الإيمان؛ ورواياتنا تتمتّع بإلهامٍ عقليٍّ بحت، وتكون النتائجُ أحياناً ممتعة؛ لأنها يمكن مناقشتها، والأفكارُ الواردة فيها بشكل عام لها جوهرٌ؛ أكثر من الشخصيات التي تحملها.
كان الأدبُ الأمريكي في القرن التاسع عشر تعليمياً، وكان إيمرسون، ويتمان وحتى ملفيل كتَّاباً تعليميين. أرادوا تعليم أمةٍ فتيِّة وخام، وظلَّ الأدبُ الأمريكي في القرن العشرين تعليمياً، لكنه أيضاً غير فكري. وهذا لا يعني أن الفكرَ مفقودٌ في الرواية؛ بل موجودٌ ومتخفٍ تحت معوقاتٍ غريبة.
في كتابه “وداعًا للسلاح”، يقدم همنغواي قائمةً بالموضوعات التي لا يجب أنْ نتحدثَ عنها ... قائمةٌ ملوثةٌ، أفسدتها خطبُ السياسيين المجرمين والمضللين. ويحاول - وعلينا أنْ نحترمه على ذلك - تمثيل هذه الصفات المغدورة دون استخدامِ الكلمات نفسها. وفي (الشيخ والبحر) يُعرض علينا نوعاً من التحمل المسيحي، بدون شروط.
إنَّ محاولة تمثيل الأفكار مع منع الفكر بشدةٍ تبدأ في الظهور وكأنها لعبةٌ غريبةٌ ومتطورة. إنه يُظهر شكّاً في قوةِ الفن، ويجعل الأمرَ يبدو كما لو أنَّ الأفكارَ التي يتمُّ التعبير عنها ستكون أكثرَ مِن أنْ يتحمَّلها الفن.
لقد طوَّرنا في الرواية مزيجاً مِن السذاجةِ في الشخصيات والعمق الضمني في الكتابة، وفي التقنيات وفي اللغة. لكنَّ لغةَ الفكر نفسَها محظورةٌ؛ وتعدُّ خطراً مدمراً. ويبدو أن الكتَّابَ الأمريكيين لديهم ولاءٌ قوي للشعب، وللإنسان العادي؛ لكن ينبغي للكاتب أنْ يهدفَ إلى الوصول إلى جميع مستويات المجتمع، وأكبر عدد ممكن من مستوياتِ الفكر، متجنباً التحيزَ الديمقراطي بقدْرِ ما يتجنب التكبُّرَ الفكري.
لا أدعي أنَّ جميعَ الكُتاب يجب أنْ يفكروا، فالبعض غير كفؤٍ في الأفكار أصلاً، وقد نؤذيهم بإصرارنا على أنْ يتفلسفوا، لكنَّ السجلَ يُظهر أنَّ معظمَ الفنانين نشطون فكريا، والآن في عالم يزداد فكرياً، وتسيطر عليه إنتاجات الفكر العلمي، يبدو أنهم متردِّدون في استخدام أدمغتِهم أو إعطاء علامةٍ على أنهم يمتلكون عقولاً.
طوال القرن التاسع عشر، زاد اقتناع الروائيين بأنَّ الفكرَ مرتبط بالسلبية ومُهلِك. وفي روائع القرن العشرين عادةً ما تكون قبضةُ المفكِر على الحياة ضعيفة. ولكن الآن جرى استكشاف نشاطٍ عاطفي بدون أفكار: في رواياتِ المغامرة والصيد والقتال والإثارة الجنسية. وفي الوقت نفسِه جرى تجاهلُ المعجزاتِ الناتجة عن الفكر في الأدب الحديث. وإذا أهمل الروائيون مثل بروست وجويس السرد، فالسبب أنَّ الدراما انتقلت مِن الفعل الخارجي إلى الحركة الداخلية؛ فنحن محتجزون في وعي واحد؛ في عالم داخلي، يهيمن فيه الكاتب على كلِّ شيء. لقد تركت الدراما الفعلَ الخارجي لأنَّ الطرقَ القديمةَ لوصف المصالح ومصير الفرد فقدت قوتَها.
يقول باسكال: (لا يوجد أشخاص ممِلون، بل وجهات نظر مُملة)، وهذا يشبه تأكيدَ الفلسفةِ الدينية على أنَّ كلَّ نفسٍ ثمينةٌ، ومثيرةٌ للاهتمام بلا حدود. وهنا وربما بدأ يتضح موقفي من أنَّ الخيال الذي يربط نفسَه بوجهاتٍ نظر مُملة يضع حداً للرواية، والخيال الذي يبحث عن طرق للتعبير عن الفضيلة أصبح في قبضةِ الأكاذيب الشائعة حول الفضيلة. وهذه الأكاذيب تولد أضدادها في الخيال: الأدب المظلم، أدب الضحية، أدبُ كبار السن الذين يجلسون في انتظار رحيل الحياة، هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور. إننا بالكاد بدأنا نفهم ماهية الإنسان، وبسطاء الناس قد يكون لديهم معجزات يقدمونها لإبقاء الروائيين المفتونين مشغولين حتى نهاية الزمان.
إذا لم يكن لدى الكاتبِ ما يقدمه سوى غرضِه التعليمي؛ فهو كاتبٌ سيئ دمرته أفكاره. وغير قادرٍ على تحمل تكاليف صيانتها، وليس الهدف التعليمي في حد ذاته سيئ، بل كثيراً ما كان تراجعُ الروائي الحديثِ عن التعليم غيرَ واقعيٍّ بشكلٍ غريب، وإيمانه بالفنِّ للفن في بعض الحالات غير جذابٍ على الإطلاق.
من الروائيين المعاصرين مَن كانوا على استعداد للاعترافِ بالحجج ضد مواقفهم، وأعتقد أنَّ هذا أعظم إنجاز في رواية الأفكار عندما يُسمح للآراء الأكثر معارضة لآراءِ المؤلف بالحضور بقوة. وبدون ذلك تكون روايةُ الأفكار انغماساً في الذات، والتعليم مجردُ طحنِ فأس. يجب أنْ تكون الأضداد حرةَ التعارضِ مع بعضها، وينبغي التعبيرُ عنها بحماس. ولهذا السبب أقول: لا يهم الموقفُ الشخصي للكاتب، أو ما يرغب في تأكيده؛ فقد يؤكِّد مبادئَ نوافق عليها جميعاً، ويكتب روايات سيئةً للغاية.
لكي تتعافى الروايةُ وتزدهر تحتاج إلى أفكارٍ جديدةٍ وخيالٍ حول الجنس البشري. وهذه الأفكار بدورها لا يمكن أنْ تعيشَ بذاتها؛ بل يجب اكتشافُها؛ ولن يكون هناك معنىً للاستمرار على الإطلاق إذا لم يشعرْ الكُتابُ بوجود هذه الصفات.
عن مجلة المحور الادبي LITERARY HUB