المسرح العراقي في المهجر.. التأثير والتأثّر

منصة 2024/02/19
...

  صالح حسن فارس*

*تعودت دائماً أن أعتلي خشبة المسرح لأمثل، لكني اليوم هنا لا أمثل، بل لأحكي عن ذلك الشخص الذي هو أنا، لأتحدث عن المسرح العراقي في المهجر وعن تجربتي المسرحية.المهجر تجربة هائلة وعنيفة في الوقت نفسه، إنها ولادة جديدة، وعليك تفكيك أبجدية الحياة، اللغة، والمسرح، المهجر ليس بجديد، فهو موجود منذُ نفي الانسان الأول من جنانه وهبوطه إلى منفاه، مثل هجرة النبي ابراهيم، الذي هاجر بحثاً عن الأرض الموعودة، وهجرات الشعوب بسبب الفقر والحروب والأوبئة.
وأخيراً هجرة العرب والعراقيين الذين تناثروا على جهات العالم الاربع، بالنسبة لي عشتُ كواحد ممن شارك في طوفان العراقيين على العالم المحيط بهم، هارباً من جحيم الديكتاتورية وحروبها، باحثاً عن فسحة الأمل والحرية.
عشتُ قساوة المهجر وذقت جمال ما فيه، وفي الوقت نفسه تعرفتُ على الناس والمسرح ودهشته، واكتشفتُ بعض أسراره وذقتُ طعم الحرية، وهو طعم يستحيل وصفه، فالمنفى كما يقول الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي “لا يـُكتب بل يعاش”.
غادرتُ الوطن بجواز سفر مزور، مروراً بعمان التي لم أستقر فيها كثيراً، ثم إلى اليمن حيث مكثتُ بها ثلاث سنوات،عملتُ هناك كمدرس لمادة التربية الفنية والمسرح في المدارس الثانوية، وقدمتُ هناك أعمالا مسرحية، وعملت في صحيفة الجمهورية اليمنية في القسم الثقافي في مدينة تعز.
بعدها سافرتُ إلى الهناك، (الجنة الباردة) بعد رحلة شاقة بين البلدان حط بي الترحال في الاراضي المنخفضة هولندا، هذا البلد الليبرالي الذي اشتهر تاريخياً بأنه صاحب أولى التجارب الليبرالية في العالم الحديث، وسبق له أن احتضن هاربين آخرين كأمير الفلاسفة “سبينوزا” والذي جاء هارباً من البرتغال، وكذلك ديكارت الذي هرب إليها من فرنسا الكاثوليكية المتطرفة، فضلا عن الانكليزي “هوبز” صاحب كتاب (الدولة التنين) الذي قال فيه: (إن الإنسان وحش لأخيه الإنسان).
بعد سنوات من التيه، أوصلتني المتاهة إلى الاراضي المنخفضة، وصلتُ أمستردام في اواخر التسعينات من القرن الماضي. خمس سنوات طوال بانتظار ورقة بليدة تسمى الإقامة، وسنوات أطول في محاولة تسلق جدار اللغة وجدران أخرى لا تقل صلابة، أعني الجدران التي علينا اختراقـُها لتقبلَنا المدن الغريبة. كنتُ مشغولاً بالاكتشاف والدهشة، اكتشاف الناس والمدينة، أرى وأسمع، ليس لأفهم مما يجري فقط بل لأحاول أن أفهم بطريقة جديدة مختلفة تماماً عن طريقة الوطن الذي غادرته. ويالها من طريقة!
كانت الانتقالة هذه المرة أكبر بكثير وأعمق تأثيراً، كان عليّ أن أفعل الكثير وأتعلم الكثير قبل أن يكون بوسعي أن أواصل مغامرتي على الخشبة.
في البداية كان فضائي هو الشعر ومحاورته على المسرح أو مسرحة القصيدة، لهذا قدمتُ حين كنتُ في المراحل الأولى من طلب اللجوء، عملاً مسرحياً بامكانيات بسيطة بعنوان (سمفونية المطر) بصحبة فنانة هولندية تعرفتُ عليها في مركز اللجوء، كان العمل باللغة العربية عن قصائد لشعراء عرب وعراقيين.
 بعدها قدمتُ عملاً مسرحياً بعنوان (أجمل الأحياء) باللغة العربية أيضاً، إعداد الشاعرالعراقي شعلان شريف، حيث طوعت الكلمة الشعرية والرقص الجسدي في العمل المسرحي، وجعلتُ الشعراء الموتى ينهضون من رقادهم حيث دعوتُهم ليشاركوني تجربتي المسرحية.
هذا العمل أيضاً قدمته للجالية العراقية والعربية باللغة العربية، وهذا ما خلق حاجزاً بين العمل وبين الجـُمهور الهولندي، مما دفعني بعد ذلك للبحث عن وسائل أخرى جديدة في الخطاب المسرحي.
كانت اللغة حاجزاً ولذا قررتُ أن أستعين بالصمت والحركة! جعلتُ من الصمت سلاحي لاختراق العالم الجديد.. فكان السؤال: كيف؟
حاولتُ كثيراً الاستجابة لهذا التحدي فقدمتُ عملي المسرحي الثالث بعنوان “قلب ذاكرة” وفيه غابت اللغة المنطوقة ليحل محلها الأداء الحركي للممثل وتقنية الجسد والصوت والحركة والبوح الجسدي والصمت، وهنا نجحت في الاقتراب قليلاً من الجمهور الهولندي.
مع هذا ظل التحدي الأكبر بالنسبة لي هو تقديم نفسي كممثل مسرحي إلى الجمهور الهولندي بلغته، لم يكن ذلك سهلاً، فلكي تحول اللغة إلى خطاب مسرحي تحتاج إلى الإحساس العميق بتلك اللغة وبتأثير كل مفردة على سامعها وإيحاءاتها العميقة، لكن لا بد من بداية ما، وقد وضعت أقدامي على ذلك الطريق عبر مسرحية “أين الهناك”، باللغة الهولندية، التي كانت ثمرة تعاون مرة اخرى بيني وبين الشاعر العراقي “شعلان شريف”.
مسرحية “أين الهناك” شكلت بالنسبة لي نقطة بداية لتجربة جديدة، أهم ما فيها التفاعل مع التجارب المسرحية الأوربية بشكل مباشر، حيث عملتُ فيها مع المخرج اليوغسلافي “فخر الدين صالحبيكوفج” الذي درس في معهد “دس آرتس” في أمستردام، وهو معهد عالمي يهتم بالتجارب الحديثة في المسرح، واعتمد العمل بشكل كبير على تقنيات الملتي ميديا، وكذلك على تقنيات الجسد التي تستفيد من تراث الشرق الأقصى.
“أين الهناك” كانت مسرحية من شخصية واحدة، مكتوبة بلغة شعرية تثير أسئلة الاغتراب والبحث عن المكان- الحلم، قدمتها في أمستردام ومدن أخرى، وكذلك قدمتها باللغة العربية في برلين، الدار البيضاء، والدنمارك، ومهرجان القاهرة للمونودراما، وفي تونس في مهرجان قرطاج للمونودراما، وأخيراً في بغداد.
بعدها قدمتُ في مدينة أمستردام في مسرح “دي بالي”، مسرحية “اشتعال- انطفاء” باللغة الهولندية، وهي بشكل ما امتداد للتجربة السابقة، والعمل درامي قائم على شخصية واحدة، يتناول الفقدان والخسارة وانكسار الحلم في المنفى المهجر، لا يعتمد هذا العمل المسرحي على تسلسل الأحداث ومنطقيتها، بل هناك حكاية مجزأة تتسارع وتتداخل عناصرها. أحاول هنا جاهداً أن أعالج قضية الخسارة وفقدان الحب، كجزء من الفقدان العام الذي يعيشه الكائن المغترب، عملتُ فيها أيضاً مع مخرجة أوروبية (سويدية- هولندية) وقدمتُ هذا العمل في برلين، كوبنهاغن، وبغداد.
وكذلك عملتُ كممثل في مسرحية (أرض اللاحد) من إخراج المخرج الهولندي الشاب المثير للجدل (دريس فرهوفن) الذي طرح رؤيته ضمن مفهوم (مسرح المعايشة). شارك هذا العرض في أكثر من مهرجان اوروبي في هولندا، المانيا، اسبانيا، واليونان.
كما عملت ممثلا في مسرحية (كيف حصلتُ على موهبة) التي عُرضت على قاعة المسرح البلدي في أمستردام ومدن أخرى، باللغة الهولندية إخراج الفنان الهولندي (فلورس فان دلفت). وأخيراً قدمتُ مسرحية (حكايتي) باللغة الهولندية، أمستردام ومدن هولندية أخرى، ومسرحيات أخرى.
 كما شاركتُ كممثل في أكثر من عمل سينمائي هولندي، فيلم تلفزيوني بعنوان (ابني صار جهادياً) للمخرج الهولندي (ساندربوخر) عُرض في التلفزيون الهولندي، وفيلم هولندي قصير بعنوان (ظل الليل) للمخرج الهولندي شادي الحمصي، وفيلم ليلى، ومسلسل بوليسي هولندي بعنوان (سباكن).
أما عن عملي المقبل لهذا العام فبعنوان (طين حري) باللغة الهولندية مع مخرج هولندي (اريان بارل) وقد قُدم هذا العرض في نسخته العربية في العراق في مدينة الديوانية من إخراج الفنان (صادق مرزرق).

التأثير:
تعود بدايات اشتغالي في المسرح على الجسد والصورة الى فترة دراستي في اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، حين عملتُ ممثلاً في أكثر من عمل مسرحي مع الفنان «صلاح القصب».
طورت إمكانيتي بتدريبات ذاتية، وتعمقت مفاهيمي وتكثفت تدريباتي بهولندا حيث درست مسرح «الميم» في معهد الفنون المسرحية العالي بامستردام، وفي الدنمارك «بمعهد أنثربولوجيا المسرح» تابعت دورة تدريبية مكثفة بإشراف المخرج العالمي «اوجينو باربا» وأخيراً في جامعة روما بايطاليا دورة تدريبية عن التصوف والجسد بإشراف الكاتب الفنان العراقي «قاسم بياتلي».
هذه الدراسات والدورات التدريبة فرصة هائلة لأعيد قراءة وتفكيك وفهم ما تعلمته بالعراق، إعادة قراءة المسرحيين الكبار من ستانسلافسكي إلى باربا. حيث تفتحت أمامي افاق جديدة لم تكن متاحة لي في العراق آنذاك، مثل: الحرية، طقوس العلاقات الاجتماعية، شباك التذاكر، التسويق، الانتاج، الفضاء المسرحي، البحث العميق في النص، وكتابة النص على الخشبة،عدم هيمنة المخرج كديكتاتور في العمل المسرحي، وجعل المشاهد الفاعل الحقيقي في العرض.
وقد تثاقفت تجربتي وخبرتي العلمية والعملية بالتواصل مع الفنانين الهولنديين من خلال اعمالي المسرحية، مع فرقة (دانس فولتاجا) حيث شاركت ممثلا في مسرحية (ذيل القط ولهيب الشمس) وهي مسرحية للاطفال باللغة الهولندية مع مخرجة هولندية (يوديت هامر).
وعملت مع المخرج «جيرارد بلن» كممثل في مسرحية للاطفال بعنوان «نزهة في حلم». وعملتُ مع الفنانين المعروفين «يوس زاندفيد» و»سبتيميا كولمان» في مهرجان كبير يقدم في الحي الاندنوسي في «أمستردام» وهذا المهرجان عبارة عن سلسلة من العروض والورشات الفنية التي تشمل: غناء، رقص، موسقى، مسرح، ويختتم المهرجان في الشارع، وينتمي هذا العرض إلى مسرح الشارع.
وكذلك مشاهداتي للمسرح الهولندي، سواء عبر المشاهدة الحية أو عبر مراجعة أرشيف الأعمال المسرحية الهولندية في (متحف ومعهد المسرح) في أمستردام، مشاهداتي لتاريخ المسرح في الفديو، كنتُ أشاهد الأعمال المسرحية الهولندية والعالمية يومياً لمدة عامين تقريباً، حيث تكونت لدي حصيلة ممتازة وخزين كبير، وحين اتسعت الرؤيا بدأت علاقتي بالمسرح الهولندي تتوطد أكثر فأكثر، والتعرف على مخرجيين هولنديين من أصول أجنبية، ومع مخرجين هولنديين.  
أردت أن أنقل شيئا من التجارب التي تابعتها وتأثرت بها، لتقديم المسرح الهولندي المعاصر للفنان العراقي والعربي من خلال كتابي باللغة العربية (ضفاف أمستل- مشاهدات من المسرح الهولندي) الذي يلقي الضوء على الاعمال المسرحية الهولندية والعالمية وعلى اهم المخرجين الهولنديين والعالميين. وكذلك قدمتُ ورشة مسرحية في كلية الفنون المسرحية عام 2005 عن تقنية الجسد في المسرح.
ما الذي خرجتُ به من كل هذه التجارب؟
يمكنني القول إنني كلما تقدمتُ بخطوة أكتشف أن الطريق أطول مما كنتُ أظن، ففي المدن الغريبة نجاهد كي نقف على حافة المدينة لا خارجها، أما الدخولُ الى الأعماق فيظل حلماً جميلاً.
تجربة الاغتراب عملية تحد لجَدارة وإبداع الفنان، وبما أننا نتحدث هنا عن المسرح العراقي المغترب فثمة أعمال مسرحية شكلت إرهاصات تأسيسية تحاول تثبيت وترسيخ تجربة تجمع بين الجذور العراقية وبين الآفاق الجديدة التي يكتشفها الفنان العراقي المغترب، قد يكون هذا مخاضاً لولادة تجربة رائعة ورصينة في المستقبل. أتاحت لي الهجرة نافذة جديدة تنفتح على ثقافة جديدة غير معروفة لدينا، ولا سيما المسرح في هولندا، المسرح الهولندي مجهول إلى حد كبير في العراق والعالم العربي.
المسرح نشاط مديني ينتعش في فضاء المدينة، وأمستردام مدينة حضارية متطورة ذات طابع عالمي. وهي مدينة حافلة بالانشطة الثقافية على مدار العام، كما يلعب المسرح دورا مهما في الحياة الثقافية الهولندية في تعدد عروضه وتنوعها، حيث لا يمر اسبوع تقريبا من دون عرض مسرحي جديد، المسرح الهولندي مسرح متطور عريق وذو تاريخ طويل، يمتد إلى ما يقارب أربعة قرون. ففي هولندا حصراً هناك مسرح نشط في أصغر مدينة.
التأثير هو أنك تقترب من التجارب المسرحية العالمية والانفتاح على الآخر المتعدد الرؤية، ولبيان ذلك يحتاج الفنان ان يكون موضوعياً أن يكون مطلعا على أغلب العروض المسرحية في المنفى، ولا يمكن إبداء حكم عليها جميعا، ولكن من خلال مشاهدتنا لبعض العروض وسماعنا وقراءتنا عنها فمن الممكن ان نكون وجهة نظر مبدئية حول ذلك، في الحقيقة ثمة صعوبات كثيرة تواجه الفنان العراقي في منفاه لتقديم منجزه المسرحي، كونك تعيش في لغة جديدة ومكان جديد.
وبالرغم من هذه الصعوبات يسعى الفنان المسرحي العراقي جاهداً أن يقدم أعماله المسرحية ليؤكد حضوره الفني واندماجه مع المجتمع الجديد، وثمة تجارب اثبتت حضورها وهذا دليل على وجود بدايات لمسرح المنفى أو المهجر وأعتقد أن هذه التجارب تستحق الاعجاب والاشادة بها. كما لفتت بعض العروض انتباهي وهي تشق طريقها بكل ثقة وجدارة، ثمة اصوات مسرحية جديدة وجادة تحاول ان تزرع شيئا مثمرا في المشهد المسرحي الأوروبي والامريكي.
وأخيراً ما أحوج بغداد إلى هذا الاحتفال المسرحي الكبير، وأخيراً أتمنى أن يصبح المسرح في العراق والعالم العربي لغة المحبة والسلام بيننا جميعاً.
*فنان مسرحي عراقي مقيم في أمستردام
* قدمت هذه الدراسة في المحور الثقافي بمهرجان المسرح العربي ببغداد 2024