أيمن السليم.. توليف المشاهد الخياليَّة والغرائبيَّة

ثقافة 2024/02/26
...

 هويدا محمد مصطفى

 

في تفسير العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين النحت والتصوير، يقول أيمن السليم، وهو فنان من مواليد حمص عام 1962، إن "الرسم والنحت وجهان لعملة واحدة، وأن كل لمسة ريشة لوحة، وكل لوحة معرض"، مؤكداً أن "الفن ذوق وأخلاق وتواضع، وبأن الغرور مقبرة الفنان".

السليم الذي يرسم وينحت باِضفاء المزيد من الدراية العقلانية والتقنية على عناصره الواقعية والسوريالية، يبدو مولعاً برسم البورتريه والأجساد والأشكال الحيوانية، وحمل الذاكرة إلى عوالم منسية عبر تجسيد مشاهد طفولية، بكل ما فيها من تفاصيل وعناصر، وما تقع عليه عيناه المفتونتان بالأعمال الكلاسيكيَّة والواقعيَّة والسرياليَّة عبر لمسات ريشة رفيعة تجنح بقوة نحو وضوح الرؤية في الأبعاد الحقيقية. 

فلوحاته تمنحنا الانطباع، بأنّه يمتلك القدرة لتحسس إيقاعات ألوانها المأخوذة من الطيف الشعري، يقدر ما يذهب لتكثيف الوعي التصويري والتقني، في إطار اللوحة عبر الضربات اللونية الهادئة المدروسة والرصينة، والتي عمقت من هواجس نزعته المثالية الأقرب إلى الواقعية القصوى من دون أن يعني إن هذا خروجا عن إطار التواصل مع نقاط ارتكاز أساسية تحقيق الناحية الأسلوبية، ولا تبقى في حدود الصياغة الواقعيّة العادية. 

وهذا ما عبر عنه الفنان الكبير الراحل فاتح المدرس في كلمته التي نشرت في دليل معرضه، الذي أقامه في دمشق عام 1988، حين قال: "هناك فنان مثل أيمن لا يتخلى عن عالمه السري المليء بالرموز الإنسانية والحيوانية يضعها في تناظر شبه هندسي، وبألوان غاية في الصرامة والحرارة يعيش فيها لوحده".

هكذا يستعرض قدراته التقنية والتأليفيّة، ويطرح أمام المتلقي جمالية الأسلوب الواقعي، الذي يمنح مشاهده بعداً خيالياً، ويتجه عبر أعماله الواقعية في أحيان كثيرة نحو الغرابة، إذ يقوم بترويض وتكييف وتوليف أشكال الواقع، متبعاً بذلك تجليات ابتكار تداعيات الحركة الواقعية والخيالية في آن واحد، وهذا التداخل نجده في أعماله السريالية حصراً .


* ما المواضيع والأساليب التي تطرحها في أعمالك؟ 

-أركز على الوجوه والعناصر الإنسانية والخيول والطيور وعناصر الطبيعة وغيرها، وكل ذلك بأسلوب واقعي أو كلاسيكي أو سريالي، حيث تبرز المواضيع كرموز مستعادة لحلم أو ليقظة غرائبية، تشكل المدخل لتسجيل سياق الأداء المنضبط بأصول وقواعد ومعادلات، وسط رواج الاستعراضي والآني والعابر، في أعمال العديد من التشكيليين المعاصرين، لاسيما وأن الرسم السريالي الذي اعتمده يشكل عودة إلى تقنيات الرسم الكلاسيكي من خلال الاهتمام بأدق درجات الدقة في خطوات توليف المشاهد الخيالية والغرائبية .


* كيف بدأت علاقتك مع الرسم والنحت ؟

- في البداية كان والدي يصحبني معه في جولاته ويشجعني على الرسم، وقد شكلت الرموز الطفولية الأولى لمشاهدة الأشياء مجمل الهواجس الغامضة والخفية في تصوير سحر الرؤى الخرافية وأشكال الطيور والعصافير والفراشات والرموز الطفولية الأخرى.

وكنت أمضي أيام الصيف في قرية والدتي (الشيخ بدر) مما ساهم أيضاً في تشكيل هذا الانحياز الدائم نحو تأمل ألوان الطبيعة وأشكال الطيور والحيوانات، التي كانت ولا تزال تتكرر في أعمالي. ومنذ البداية كانت تثيرني ألوان الزهور وحركة الغيوم والضباب وأشكال الفراشات والضفادع والعصافير، وكنت أعكس هذه التأملات كرموز طفولية في رسوم دفاتري المدرسية، وما لبثت أن ظهرت المؤشرات الأولى لتعلقي بالفن الذي تبلور أثر مشاهداتي لوحات كبار فناني عصر النهضة، من أمثال: ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو ورفائيل وصولاً إلى مرحلة تأثره بشيخ الفنانين السورياليين سلفادور دالي، ولقد شاهد ت بعض لوحات كبار الفنانين العالميين القدامى والمحدثين عن قرب، خلال جولاتي الإطلاعية على بعض المتاحف البريطانية.


* تنجز أعمالك الفنية متنقلاً بين طرطوس وبيروت، ما أبرز اللوحات والمنحوتات التي جسدتها في الأعوام الأخيرة.. وكيف تحافظ على خطك الأسلوبي؟

- لقد أنجزت منحوتات نصبية بارتفاعات كبيرة وصلت أحيانا لعدة أمتار، وخاصة في لبنان "من ضمنها نصب العذراء في بيروت بارتفاع ستة أمتار".

كما وأنجزت في لبنان بورتريهات لشخصيات شهيرة، وأعمال أخرى فسيفسائيّة وحروفيّة وزخرفيّة، إضافة لمجوعة واسعة من اللوحات التي أنجزتها في فندق شاهين بطرطوس، وفي مجمل هذه الأعمال لا ألغي الإشكال لأصل إلى وتيرة الالتباس بين المؤشرات المحلية ومعطيات الحداثة الأوروبية، وإنما أجسد العناصر بواقعتيها الحقيقية لإظهار أحاسيس الارتباط  بالماضي والحاضر معاً.

 

* هل حققت لوحاتك ومنحوتاتك الواقعية مقولة الفن للجميع ؟

- نعم حققت ذلك، لأن الأعمال الواقعية يمكن أن تلاقي القبول من شريحة واسعة من الجمهور، ولهذا لا يمكن التنكر للعلاقة المتواصلة القائمة بين الناس في المجتمع العربي وبين الرسم الواقعي، حتى أن الهاجس الواقعي الذي أمارسه بخبرة تقنية طويلة يساهم في تقريب الفن التشكيليّ من الناس، وبالتالي يكسر حالة القطيعة القائمة بين الجمهور واللوحة أو المنحوتة في البلدان العربية، لأن الصياغة الواقعية الواثقة، تجسد سمات العودة إلى الأصل، أي إلى الشكل الواضح والمفهوم والقادم من مصادر نهضوية واقعية وكلاسيكية وسوريالية . 


* تتنقل بين الواقعية والكلاسيكية والسريالية وتصل في بعض الأعمال حدود الرمزية.. ماذا تضيف؟

-هذا صحيح فأنا لا أبقى دائماً عند ضفاف الصورة الواقعية، وإنما أتجاوزها أحياناً نحو دلالات حلمية مفتوحة على بعض تيارات الفنون القديمة والحديثة معاً، حيث أمد اللوحة والمنحوتة بثمرات خبراتي التقنية، في خطوات الوصول إلى الهدف الجمالي المطلوب.

وفي هذا الإطار يمكن القول إن لي طريقتي الخاصة في توليف الأشكال، على الصعيدين التكويني والتلويني رغم تفاوت المعالجة، وهذا يزيد من إيقاعية الحوار اللوني، ويفسح المجال لرؤية العمل منفذ بحساسيات لونية مختلفة ومتفاوتة بين الكلاسيكية والسريالية مروراً بالواقعية. كل ذلك عبر الضربات اللونية الهادئة والمدروسة والرصينة والمستعادة من مخزون ذاكرتي البصرية، التي عمقت من هواجس نزعتي المثالية .

ومن الناحية التشكيليّة والتقنية جسدت عناصري بالزيتي والمائي والحبر الصيني والمواد المختلفة، ورغم تعلقي الدائم بالرسم الواقعي، كنت أعمل لإظهار خصوصيات بحثي التشكيلي، وكنت أضفي على لوحاتي المزيد من الشاعرية البصرية، فأعمالي لها خصوصيتها، لأنني أنجزها بصدق وإحساس ومحبة.


* هل هذا يعني أنك ضد التيارات الفنية العبثية التي قلبت الفنون التقليدية رأساً على عقب؟

-نعم، أنا أستعيد في لوحاتي ومنحوتاتي تقنيات الكلاسيكية القديمة والكلاسيكية الحديثة، والواقعية القصوى التي جاءت في فنون العصر كردة فعل ضد النزعات العبثية والدادائية والتركيبية. وأعمالي تبدو أكثر ميلاً نحو التجسيد الذي يعتمد طريقة إظهار البعد الثالث، برؤية بصرية تتدرج فيها الإضاءة داخل الأشكال الواقعية أو الكلاسيكية، بالإضافة إلى تقديم ملامس لونية ناعمة في تجسيد الأشكال وتضليلها وإبراز رصانة الرسم في معالجة التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي تحتاج إلى جلد وصبر ووقت طويل.