خيانة الترجمة

منصة 2024/02/26
...

 أحمد عساف  


على الرغم من الجهد الحثيث والمضني الذي يبذله المترجم أمانة لروح النص وجمالياته، إلا أن تهمت "الخيانة" تلتصق به في أي بلد كان.. هذه المفردة التي تستفزه ولا يحبذها كثيرًا ما يتعرض لها عبر تعليقات وانتقادات من الكتاب الأصليين للنص، ومن شريحة لا بأس بها من القرّاء:

وتعد الترجمة خيانة منذ قرون عدة، كما تقول الدكتورة زبيدة القاضي، لا سيما في فرنسا، في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، إذ كان يحق للمترجم تغيير النص و(تجميله) بحيث يناسب فكر المتلقي وثقافته، وهذه هي الخيانة.

مما دفع المترجم الفرنسي أنطوان غالان إلى (تهذيب) ألف ليلة وليلة، عندما نقلها إلى اللغة الفرنسية، بحيث لا يضطر سكان القصر، آنذاك، لقبول المشاهد الجريئة فيها، وهكذا أصبح طبق حب الرمان المحلى بالعسل والمزين باللوز المقشر "كعكة بالكريما"، فكانت ترجمة غالان مشوّهة للنص العربي.

لذلك دعا أندريه جيد لقراءة ألف ليلة وليلة من دون أفكار مسبقة، كمن يريد الدخول إلى بغداد، "فمن لا يستطيع أن يدخل إليها باللباس العربي فليدخلها 

عاريا".

وتضيف القاضي، أن مصطلح (خيانة) ظل دارجاً حتى أصبح (كليشية) يستخدمها كل من يتحدث عن الترجمة. 

أما أنا فأقول: ليس في الترجمة خيانة، هناك حتماً تغيير، لأن المترجم سينقل الأفكار والصور من لغة إلى أخرى، وبأسلوب جديد، لكنه يحافظ على روح النص والفكرة الأساسية له بدقة متناهية.  

أما  حنان علي فتقول: إبان تماوج الألسنة وتبادل العوالم، يقف حارساً، كيميائياً، خيميائياً في أحايين كثر متسربلاً بنهجٍ ورؤى فلسفية خاصة. ما فتئ المترجم ناسجاً لخيوط المعنى الدقيقة راتقاً الهوة القاتمة بين اللغات. 

ذاك المتهم بالخيانة، لا يتوانى عن تجسيد جوهر الإخلاص، فهو من يستحضر التأملات، ومن يحمل مرآة النص الأصلي مشرقاً بمحياه الحقيقي.

لا يعدّ المترجم خائناً إن فتش عن الفروق الدقيقة، أو بثّ حياة جديدة بإيقاعات النصّ الأصيلة. 

أيفعل مزارع ينثر بذوراً في تربته الخصبة، على أمل ازدهارها في عقول وقلوب تواقين جدد لحلة جديدة؟

 وتعتقد أن "الحارس لا يخون لبوابة المعرفة، البطل المجهول في عالم الأدب، المجتهد بصمت خلف الكواليس، أمينُ أفكار العالم بثرائها وتنوعها"،

وتضيف أن "التهمة باطلة، وإن تاق المترجم إلى خلق تغيير ما، مثله مثل أي قارئ نهم، لكنه منوط باحترام النص الأصيل وتقدير الثقافة التي نبع منها، ولن يتخلى الشغوف المتفاني العاشق لمهنته عن سمة الأمانة، كوصيّ على السلالة المتواصلة للفكر والأدب الواقع 

بين يديه".

من جهته، يقول محمد عُضيمة: إذا كانت الترجمة، أي النقل من لغة إلى أخرى، خيانة، فإنَّ كل عمل إبداعي هو خيانة، لأنه في نهاية التحليل هو ترجمة ناقصة بشكل أو بآخر لنص ما، لشيء ما، لحدث ما. والحياة، بهذا المعنى، ليست أكثر من خيانات متتابعة ومتوالدة، ولا تستقيم بغير الخيانة. 

ليس هناك إبداع من دون خيانة لشيء ما قبله، وبهذا المعنى الترجمة هي فعل إبداعي بامتياز، لأنّها خيانة بامتياز وخيانة كانت، وما زالت، لا بدَّ منها على مرِّ العصور من أجل تلاقح الحضارات وتقدمها.

وترى أنّه لولا الترجمة ــ الخيانة لما كان لدينا اليوم شعر حديث، ولا رواية، ولا مسرح، ولا سينما، ولا فن تشكيلي، ولما كان لدى الغرب فلسفة قديمة ولا حديثة ولا أخرى ما بعد حديثة، ولما كان لديهم أيضا مسيح ومسيحية. 

الترجمة ــ الخيانة هي أم العلوم والثقافات، هي أم الحضارات.

وتتابع: أن الرائحة السلبيّة بشكل عام للفظة "خيانة"، وفي جميع اللغات، لا سيما في القول الإيطالي المشهور "الترجمة خيانة، والمترجم خائن"، هي المسؤولة إلى حد كبير عن صورة المترجم الشائعة، وفي جميع البلدان، على أنه مجرد ناقل من لغة إلى أخرى، مجرد وسيلة نقل، حافلة أو تكسي، من حيّ إلى آخر، ولا علاقه له بدم ودروب المبدعين.

الأمر الذي أدى، وما زال يؤدي، إلى استسهال واستصغار واسترخاص ما يقوم به ويقدمه المترجمون من قبل الناشرين والمؤسسات الرسميَّة وغيرها. 

والواقع هو أنَّ المترجم لا يقل أهمية عن أي مبدع آخر، ونصه لا يقل أهمية عن النص المترجَم، يخون هنا وهناك ليكمل رسالة الإبداع هنا وهناك.

ويرى عبد الله فاضل أنّه أن الطبيعي أن يتعرض المترجم لنقد الكتاب الأصليين للنص وغيرهم. 

لقد كتبت ذات يوم مقالا تحدثت فيه عن أخطاء الترجمة وعيوبها، بيّنت فيه أن المترجم يخطئ مثله مثل غيره من أصحاب المهن، وأن مهمة المترجم الجيد أم يتّبع الآليات التي تمكّنه من تخفيض أخطائه إلى الحد الأدنى والممكن.

ويقول إنّ "موضوع الخيانة في الترجمة، هو مجازي، في ما أظن، ذلك لأنّ النص الإبداعي يُنتج في ثقافة معينة، ولغة معينة، وسياق زمني وتاريخي 

معين". 

ولذا فهو ينطوي على عناصر خاصة بالسياق الذي يُنتج به، كما يضيف: وهذه العناصر هي التي لا يمكن نقلها، ومن هنا جاءت مقولة (كل مترجم خائن).

كلمة (خيانة) قاسية، ولها دلالة سلبية للغاية، ولهذا حاولت أن أبحث في مشكلات الترجمة من منظور آخر، هو إلى أي مدى بذل المترجم (العناية الواجبة) لتقديم ترجمة الذي يترجمه. مثله كمثل الطبيب الذي يؤدي عملية جراحيَّة أدت إلى وفاة المريض: هل بذل الطبيب (العناية الواجبة) لإجراء عملية جراحيَّة ناجحة، أم لا؟.

وأكد أنّه: حين لا يبذل المترجم (العناية الواجبة) في عمله، فإنّه يقدّم ترجمة رديئة أو غير مستساغة، تصل أحياناً إلى حدّ الإجرام بحق النص الأصلي.

إذا كان لي أن أتحدث عن خيانة في الترجمة.. فأقول إنّ "المترجم الخائن هو الذي لم يبذل العناية الواجبة لتقديم النص الذي يتنطّع لترجمته، بما يليق به في اللغة الجديدة".