ابتسامة جدّي

ثقافة 2024/02/27
...

 حاتم حسين

أحلم في يومٍ من الأيام أن تقولَ لي أيّ كلمةٍ أو أيّ شيء، لكنّها لم  تنبس أو تقل؟
هكذا تحسسّت الفارق بيننا وأنا أمنحُها هذا الحق؛ صورتها التي أقفُ أمامها أُحاول أن أتامّل عينيها الجميلتين  أتمعّن فيهما في كلِّ مرة تلهماني إحساسا مختلفا، وأنا لا أنسى مِثلما أسلفت تلك الفوارقَ التي مازلت أضعها أمام عينيّ، بل وأعرف حجمي وحياتي، ونوع الإثارة والانجذاب التي حاكت عصب الدماغ الكهربائي وحرّكت الحواس، بل كنت أتساءل وأكتب لها هل يجوز أن تحبين أحدا من دون مستواك، وهل يحق للآخر أن يحبك وهو لا يرقى إلى مستوى علمك ودراستك؟ لم يكن حبّي لها سطحيا، بل عميقا أربك ووتّر عضلة القلب ممّا جعلني أنجذب لها  بهذه القوّة، رغم  الفارق الكبير بيننا.
فأنا مثلا لم استقرّ على مهنة ووظيفة لكي أكون فيها متمكناً مادياً أو يؤهلني الراتب لخطبتها كطبيبة تابعتها، وحفظت نصائحها بكثير من التأثر والشجن، أنا أكره فكرة قلعَ الأسنان لِذا كنت أُعلّق في كلّ منشورٍ لها تُظهر فيه أسناناً خربةً وأسناناً مسوّسة، فأهرع  وأُعلّق وأقول إن كثيرا من الأطباء يقفون عاجزين في مشافٍ حكومية أمام سنّ متعبٍ لا يجلب لهم الربحَ،  والمردود المادي، أمّا في العيادة الخاصة فإنّهم بارعون في إعادة الابتسامة، وبذل المجهود وصناعة السن. كنت أُصاحب  جدّي في طفولتي إلى المشفى الحكومي التي اقتلع بين جدرانها كلّ أسنانه التي كنت أسمع الطبيب مخاطبا لجدي: (لازم نقلعها اسنانك منتهية الصلاحية فيضطر جدي إلى قبول رأي الطبيب حتى أمسى فمُ جدّي مثلَ مغارةٍ فارغة ،كنت أحزن في داخلي. وأفكر كيف يتسنّى لجديّ أن يمضخ الطعام، وأنا أراه يلُوكه بين أماكن فارغة، كان الجو مناسبا وأنا اتابع بشغف  لها ولإعلاناتها حافزا أن أقف مع جدّي  وأقدم له شيئاً طالما أنا على تواصل مع هذه الطبيبة التي انجذبت إليها، وغازلت منشوراتها، وربّما كسبت ودَّها، أو ربّما مثلما أسلفت وصارحتها ووضعت الفوارق بين مهنتها، ومهنتي المتواضعة، لذا كان لازما عليّ أن احترم نفسي. وأعجب بها من بعيد، صممت أن أكون مع جدي وأطير به إلى عيادة الطبيبة للاستفسار عن المبلغ الذي يجب أن أدفعه لعمل وإعادة أسنانه؟ شاورت أبي الذي اغتبط للفكرة.
ووضع مبلغاً جيداً، وشاورت أمّي أيضاً التي هي الأخرى استجابت للفكرة وخلعت جزءآً من (صيغتها) الذهبية البسيطة، لذا طرت بجدي لعيادة الطبيبة التي سرعان ما بدأت بالفحوصات والأشعة، وقالت مستبشرةُ: إن فكَّ جدّك يصلح لزرع الغرسة داخل عظم الفكِّ، لذا سيتمتع جدك بزراعة أسنان فورية آمنة، بل إن عظام جدِّك (ما شاء الله) أقوى من عِظام شباب اليوم، وكانت النتيجة قبول هذه التقنية الجديدة لزراعة الأسنان لجدّي الذي أُحبّهُ، ودعاني أيضا حبّي، وأعجابي بهذه الطبيبة المتمرّسة التي تتفنن في نشر مواضيعها الصحية لكسب الزبائن ولم تشاهد صورتي، أو تتعرف علىّ، ولم استطع أن أُخبرها بأنّي أنا الذي أكتب، وأعلق على منشوراتها، فرح جدي أخيرا لجلسة (التركيب) خرجنا من العيادة فرحين وكأنّه ولِد من جديد، وهو يبتسم للمارة بلا مناسبةٍ فقط ليظهر ابتسامته، ولأوّل مرة غاب عن عيني كهفَ جدّي الفارغ  بأسنان ناعمة جميلة، أخيرا عوّضك الّله عن أسنانك المفقودة يا جدّي؟ وها هو اليوم يجلس بيننا فرحا يمضغ الطعام بكلّ سهولة ويسر. شعرت بسعادته التي لا توصف، وهو يقف مبتهجا يتمطّى أمام المرآة بعد كلّ وجبة طعام يستخدم الفرشاة والمعجون.. مازحته بأنّ أسنانه لبنية جميلة! لكنّنا جميعاً لم نهنئ طويلا بأسنانِ جدّي، كان صباحا حزينا حين طرقت الباب  وناديت عليه أن ينهض لنجتمع على مائدة الإفطار، وهو ممدّداً في فراشه واضِعا يديه تحت رأسه تعلوه الابتسامة، حاولت إيقاظه برفق لكنه لم يتحرّك، وضعت اذني على صدره كي أسمع دقات قلبه بأنّه حيٌ ولم يستجب، ناديت على أمّي بفزع، فهرعت إلى الغرفة تطلعت بحزن في وجهها وأخبرتها بهدوء إن جدّي ربّما فارق الحياة؟! فندت عنها صرخة مدوّية  أيقظت فيها كلَّ من في البيت. كان جدي مغتبطآٓ حتّى في موته وهو يكشف عن أسنانه الناعمة البيضاء، آخر مرة أُشاهد فيها اِبتسامة جدّي.