رسائل الورد

ثقافة 2024/02/27
...

 أسماء محمد مصطفى

ـ سامحي الشوك، لأنّه جرحَ الوردَ النامي في روحك.
يتردد الصوت البعيد في أذني مرات عدّة وسط شعوري بوخز الشوك حين مسكت إحدى ورود حديقة بيتي لأشمها، بعد إكمالي سقي الشجيرة، حيث يغريني منظر الورد البليل دوماً، فالندى يجعلني استمع باهتمام بالغ إلى معزوفات الطبيعة في قلبي عبر هذه التشكيلات الرقيقة وسط زحام الشعور بجفاف الحياة أحياناً أو غالباً، لهذا أحرص على سقي شجيرة الورد حتى لا أحرم من تأمل جمالها البصري والسمعي، وإن كان بعض الشوك النابت في عيدانها يتسبب بجرح، كما حدث قبل قليل.
ـ كلماتك تشبه الورد ..  
يردد الصوت ثانية  تلك الكلمات .. ثم يختفي ..
ـ صفحات دفترك تحمل عطرها ..  بينما كلماتي هي الأشواك التي جرحت ذلك الورد.
يتداخل تردد تلك الجمل مع معزوفة الورد على قيثارة صباحي، فيبدو الناتج أغنية تحملني بعيداً إلى ذلك الربيع الذي غادرت قطاراته، على ما يبدو، محطات النسيان بعد أن ظل غائباً عن أفقي سنينَ طوالَ ثم عاد إلى ذاكرتي فجأة ..
كان ذلك في ربيع إحدى سنوات حرب الثمانينيات، حين كنت جالسة مع أختي الصغرى في حديقة البيت الفتية وقت العصر، أفكر بما ينقصها من ورد كي تبدو أجمل، فوجدتُ صديقتي مُنى تزورني، استغربتُ مجيئها في ذلك الوقت، لأننا افترقنا قبل ساعات قلائل عائدتين من المدرسة، ظننتُ وأنا ألمح ورقة مطوية في يدها أنها جاءت من أجل واجب مدرسي. قالت لي إنها تريدني على انفراد. في صالة الاستقبال سلمتني الورقة، هامسة لي:
ـ أنتِ تعرفين أن أخي سامي أصيب في الجبهة، وهو الآن راقد في المستشفى العسكري.
ـ نعم، أتمنى أن يشفى عاجلاً.
ـ كتبَ رسالة لكِ.
تسلمت الرسالة وسط استغرابي وحرصي على أن لا يراها أهلي المحافظون، خشية أن يفهموا الموضوع خطأ، فأذهب ضحية ظنونهم.
حين اختليت بنفسي في غرفتي فتحت الرسالة التي أطرّها كاتبها برسوم الورود:
«عزيزتي هديل..
لطالما استمتعت بقراءة خواطرك في دفترك الجميل الذي طلبتُ من أختي منى أن تستعيره منك حين أبلغتني بأنّ لديها صديقة تكتب الخواطر، فأنا مهتم بمثل هذه الكتابات، لأنني أكتب أيضاً. كم هو رائع أن يكون لفتاة صغيرة بعمرك اهتمام بالكتابة وبهذه الرّقة والصفاء اللذين وجدتهما في كتاباتك.
لاشك في أنك تتذكرين أنني كنت أشاكس كتاباتك في دفترك، فأكتب تعليقات ساخرة عليها.
قبل مدة أصبتُ في الجبهة، ولم أشعر بنفسي إلاّ وأنا على سرير في المستشفى ـ قيل لي إنني استغرقتُ في غيبوبة لأكثر من أسبوع ـ هناك وسط شعوري بالألم ورؤيتي الإصابات في جسدي كنتِ أنتِ أول من فكرتُ به، وتراءى لي دفتر خواطرك كثيراً، شعرتُ به مصاباً هو الآخر بشظايا كلماتي القاسية، ما الفرق بين شظية ناتجة عن سلاح وأخرى عن كلمة ساخرة، جارحة؟! فكرتُ بأنني أنال جزاء إساءتي إلى أفكارك الصافية ومشاعرك البريئة التي تبثينها للكون عبر ذلك الدفتر، حين كتبتُ تعليقات فكاهية على سطورك، هل رأيتِها مزحة ثقيلة مني؟ أسألكِ، وقد بات الندم شريكي على ذلك السرير، ينام ويصحو معي، يشاركني طعامي وشرابي وحتى دوائي، لأنني خربشتُ دفترك النقي بتعليقاتي المشاغبة. كلماتك تشبه الورد وصفحات دفترك تحمل عطرها، بينما كلماتي هي الأشواك التي جرحت ذلك الورد، وما رسالتي هذه إلاّ تعبيراً عن اعتذاري لك، لجرحي شعورك وإساءتي  إلى كلماتك وموهبتك، وأقسم لكِ أنني كنت أقصد المزاح لا أكثر، أنتِ إنسانة رقيقة، وهذا يتجلى في مفرداتك الملأى بالمشاعر الجياشة، ولا تستحقين إلاّ كل تقدير واحترام. سامحي الشوك، لأنّه جرح الورد النامي في روحك. تحياتي.  سامي».
أسعدتني الرسالة غير المتوقعة، وأنا أقول لنفسي إنني لم أشعر بالألم حين عاد دفتري إليّ مليئاً بالخربشات، ولم أفسرها على أنها سخرية من كلماتي، على العكس تماماً، أضحكتني كلماته المشاكسة الشقية، كما إنني وجدت أنه رسم قرب بعض الكلمات والسطور وروداً، وكان ذلك كافياً ليمنحني شعوراً جميلاً  بالتقدير وحسن نيته، ولكن على ما يبدو أنه إنسان شفاف ولهذا اعتقدَ أنه جرحني بتلك التعليقات.
وصلتني منه بضع رسائل تباعاً، أطرّها جميعاً بورود رسمها على الحواشي، وحرصتُ على قراءتها أكثر من مرة، حتى انقطعّ عن الكتابة بعد أن استعاد عافيته وعاد إلى خط النار، وصادف ذلك تخرجنا من المدرسة الإعدادية وافتراقي عن صديقتي التي لم أرها بعد التخرج نهائياً.
غمرني شعور بالاعتزاز تجاه الرسائل، كانت المرة الأولى التي أتسلم فيها رسائل كهذه، فخبأتها في حقيبتي  المدرسية بين الكتب، لكن أختي أطلقت جماح فضولها، حين انتبهت إلى قيامي بتفحص حقيبتي المدرسية يومياً، حتى تمكنت يوماً من الانفراد بالحقيبة والإطلاع على الرسائل، ولأنها كالآخرين لا تستوعب وجود علاقات إنسانية نقية لا تخرج عن النطاق الأخوي، باتت تزعجني بتلميحاتها السمجة، وكإنها تريد إخبار أمي بالأمر.
ذات صباح، وأثناء تفكيري بتزيين الحديقة بالورود، مرت بذهني فكرة، أن أحفظ الرسائل في كيس نايلون سميك أضعه في صندوق أدفنه هناك. نفذتُ الفكرة، وزرعتُ شجيرة ورد على مدفني الأخضر. وكلما اقتربتُ من الورود لأشمها كنت أشم عطراً آخر ينبعث من التربة، يرافقه صوت عذب يردد كلمات الرسائل على وقع موسيقى هادئة جداً، ومطلعها: «سامحي الشوك، لأنّه جرح الورد النامي في روحك»..
اليوم، بعد مرور سنوات طوال على تلك الأحداث التي أنستني إياها انشغالاتي الحياتية وأسفاري، أعود إلى بيت أهلي، لأجلس في الحديقة أتأمل شجيرة الورد وهي تحرس صندوق الرسائل، واستمتع بصدى الأغنيات، لكن خلوتي تقاطعها أختي المزعجة التي جاءت تطلب مني الانضمام إليها في المطبخ، يعيد إليّ صوتها ذكرى حزينة، ويجعل نظري يصطدم ببلاطات الباحة الخارجية التي أجلس فيها، فأدركُ تماماً بأنني لم أدفن الرسائل، ولم أزرع شجيرة الورد فوقها، لأنّ بيتنا ليس فيه حديقة. اضطرني فضول أختي وخشيتي من أن تُطلِع أمي الصارمة على ما يجري إلى تمزيق الرسائل وحرقها حينذاك. كان قراراً سيئاً مني ندمتُ عليه. ولو كان بإمكاني الآن أن أوجد حديقة في البيت سأزرع الخيزران، لأضرب به أختي السامة ضرباً مبرحاً.
سأستمتع بضربها كثيراً، مثلما استمتع بسماع أغنيات الجندي النقية المتصاعدة من رسائل الورد المحفوظة في حديقة روحي.