حواراتٌ في المسكوت عنه

ثقافة 2024/02/27
...

  د. جواد الزيدي

عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق صدر للصحفيَّة والكاتبة (منى سعيد الطاهر) كتابها الموسوم (صانعو الجمال) وهو عبارة عن حوارات في الثقافة والفنون والآداب، يحتوي على 380 صفحة من القطع المتوسط، ويضم حوارات لمجموعة كبيرة من الفنانين والأدباء والمثقفين العراقيين والعرب من أجناس مختلفة.
تمَّ اصطفاء هذه الأسماء بعناية كبيرة في ضوء حضورها داخل المشهد الثقافي العربي، وأهمية كل منها في تخصصه، فضلاً عن إضافاته المعرفيَّة والإبداعيَّة، أضاءت تلك التجارب وما يجاورها من معطيات الحياة وهوامشها التي ستكون فاعلة في المتن الثقافي، أو في مركز التجربة.
وتحقق ذلك من خلال وجود (الطاهر) في بغداد والامارات ومدن أُخرى، وعبر زمن متصل منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر.
وقد تتماثل هذه التجربة مع تجارب أُخرى أضاءت جزءاً كبيراً من حياة المشتغلين في الحقل الثقافي، مثلها مثل (د.حميدة نعنع) حينما قدمت كتابها في تسعينيات القرن الماضي وهو يضم بين دفتيه أهم الحوارات التي أجرتها مع عديد مفكري العالم في ما ينم عن طبائع كل منهم ورؤاه الخاصة ونظرته الى حقله الفني وطرائق  اشتغالاته.
ولقد كانت تجربة (الطاهر) تتعقب مكان الابداع لدى هذا السرب المبدع المحلق في سماء ثقافتنا العربية، والهوامش التي تعيد ترتيب قراءة كل منهم الى منجزه الابداعي والعوامل التي أثرت به بشكل كبير.
ابتدأ الكتاب بتقديم الشاعر والصحفي (عبدالله الحامدي) الذي يصف الحوار بالفن الأدبي لخصوصية المحاور والأسئلة المطروحة والمناطق التي تجب إضاءتها من خلال معرفة تفصيليَّة بتاريخ الجنس الفني وتراكماته، والمعرفة الذاتية للمبدع الذي تتم محاورته واستنطاق ما بداخله، أو غير المعلن الذي يتركه صانع الخطاب مهملاً من أجل الغموض وعدم كشف جميع المنافذ في التجربة والحياة معاً.
وجرى ترتيب الحوارات بشكل متقن ضمن تصنيفات أُسلوبيَّة وتخصصيَّة. فقد بدأت بالناقد (حاتم الصكر) وحديثه عن الشعر والرواية وموقعهما ضمن الزمن المعاصر.
في ما يعتقد الناقد (ماجد السامرائي) أن المعايير النقديَّة في قراءة المنجز هي الخلاص النهائي الذي افتقده راهننا الحاضر في تقديم هذا الاسم، وهذه التجربة من دون الأُخرى.
ليتم الانتقال بعدها الى موضوعات الرواية وحوار الناقدة (نازك الأعرجي) التي تصف مرحلة التسعينيات بعقد الرواية النسوية من حيث الكم، إذ تجاوزت (70) رواية بما يفوق ما أنجزه مشروع الرواية العربية، لتظل في سياق الرواية والانتقال الى الروائي العراقي (د. طه الشبيب) الفائز آنذاك بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية الثالثة، وجائزة الابداع العراقي، وهو يرى أن الرواية اختصاص علمي وليس أدبيَّاً، بحيث تتوافق مع تخصصه في علم الأمراض، وتتطلب كتابة الرواية (من وجهة نظره) مزايا علمية، مثل الخيال، والمنطق، وروح التقنية، والقوى الذهنية ومرشحات الوعي واللاوعي على السواء.
وفي العودة الى التونسية (فوزية العلوي) الحائزة لجائزة القصة القصيرة في الشارقة، فإنّها تجد أن معظم الثقافة العربية تأسست على حساب المرأة، وعندها الشعر إنجاز ذكوري منذ البداية، لأسباب تتعلق باحتفاء الثقافة العربية بالشعر واحتضانه من دون الأجناس الأُخرى.
      وعبر هذه المرحلة التي أسهمت التحولات السياسية في تغيير نمط تواصلها الابداعي، وتأثيرها في المشاريع الثقافية بحلول أسماء وتتويجها على خارطة الثقافة العربية، أو انحدارها من مواقع الصدارة بانحدار الداعم السياسي.
فبدأت مع الروائي والصحفي (أمير الحلو) وروايته (ليلى العامرية) وكشف علاقته بالشعر والرسم والرواية والصحافة وعوالم ثقافيَّة أخرى تتشاكل مع كل  هذا.
وأن خارطة حوارات (الطاهر) عميقة ومتشعبة من حيث البنيات الزمكانية، والتخصصات لا يمكن الاحاطة بشكل تفصيلي بكل ما ذكرته، إذ إنها حوارات مع فنانين من مختلف الأجناس مسرحيين وتشكيليين وسينمائيين وخطاطين، داخل العراق وخارجه، عراقيين وعربا، سواء كانوا من جيل الريادات الفنية والأدبية وما بعدها، أو من الأجيال اللاحقة وغيرها.
وبعض هذه الحوارات تكمن أهميتها في ما صرَّح به منتجو الخطاب وتماساته الجوهريَّة مع اللحظة العراقيَّة الراهنة، مثل حوار عالم الاجتماع العراقي (د. فالح عبدالجبار) واحصائياته التي اتخذها بشكل مباشر من شرائح متعددة من المجتمع العراقي، لكي يبني عليها تحليلاته الاجتماعية، أو رؤية الفنان (فيصل لعيبي) للرسم وعلاقته بالحياة الشعبية وغيرها من الحوارات التي يمكن أن يشار إليها كاملة لأهميتها.
بيد أن هذا الكتاب يحتفظ بأهميته لأسباب تتعلق باكتشاف مثابات جمالية وفكرية جديدة غير معلنة أو مسكوت عنها في هذه التجارب، بما يُغني تصورات التلقي، وامكانية ايجاد جدل يتعالق مع الرؤى السابقة واعادة تشكيلها من جديد في ما يخص الظاهرة الإبداعية والثقافية، أو من خلال المنجز الفردي والتجربة الشخصية لكل منهم، إذ لا يمكن التعرف على بعض التفاصيل والمؤثرات المرجعية من خلال قراءة المنجز الابداعي، لخصوصية الاشتغال والظروف المرتبطة به، ولعل التصريح من خلال الحوار هو ما يُثري ذلك المسكوت في التجربة، أو في الحياة الشخصية للمبدع.