صناعة الأدوية.. لئلا تضيع الحقيقة في زحمة التصريحات

منصة 2024/02/29
...

 أحمد علي إبراهيم

أثارت تصريحات إحدى السيّدات وهي عضو  في مجلس النواب، عاصفة من التساؤلات وردود الأفعال، بخصوص قيام جهة لم تذكر اسمها بإعادة تعبئة أدوية لمعالجة مرضى السرطان تستورد جاهزة من إيران والهند، لبيعها في السوق العراقية، مثيرة الجدل في نفس الوقت حول عدم صلاحيتها للمعالجة، كما لو أنها من أعمال الغش الدوائي، وبذلك بعثت برسالة خاطئة إلى المجتمع، لا سيما أن هناك قنوات إعلامية ووسائل تواصل هدفها الإثارة بغض النظر عن النتائج وبدوافع مختلفة، الأمر الذي يتسبب في زعزعة الثقة بالإنتاج الوطني، نتيجة ما يترسب لدى المواطنين من أفكار قاصرة عن الإلمام بطبيعة هذه الصناعة التي يشكل الغموض جانباً منها
ذلك أن الدواء ليس كأي سلعة. وبعيداً عن المقاصد، وإذ نحن معنيون بتوضيح الأمور، وجدنا من الضروري إلقاء الضوء على هذه الصناعة وتبيان ما هو غير واضح للمواطنين.

أولاً: هناك طرق متعددة لنقل التكنولوجيا، وواحدة منها الاتفاق مع الشركات الأجنبية بهدف تصنيع مستحضراتها من خلال تعاقدات التصنيع المشترك، ويتم ذلك بمراحل بدءاً من التعبئة الثانوية والأولية، ثم التصنيع الكامل، ويستغرق ذلك ثلاث أو خمس سنوات بحسب أنواع المستحضرات المتفق عليها والمتطلبات النهائية التي يجب توفرها للتصنيع الكامل، ويتم ذلك بإشراف من قبل الشركات الأجنبية ووفق اشتراطات حددتها وزارة الصحة مسبقاً في المدونة المعروفة بـ (كراس التصنيع التعاقدي)، وهذه الصيغة متبعة ليس في العراق فقط وإنما في العالم أجمع، وللعلم فنحن كمنتجين نعتبر شروط هذا الكراس من نوع التعليمات المتشددة لأسباب متعددة، ولعل السيدة النائب غير مطلعة على هذا النموذج من التعاقدات في الصناعة، وربما لديها معلومات عن تجاوزات محددة، وكان عليها أن تشير إلى ذلك بوضوح، ولا توجه اتهاماتها بشكل عمومي، مما يسيء إلى الصناعة الوطنية التي تتقدم الآن بشكل ملموس بعد إطلاق السيد رئيس الوزراء مشروعه المعروف بـ (توطين الأدوية)، وإجراءات وزارة الصحة التي اتسمت بالجدية في مسألة مواجهة سوق الدواء المنفلت والاستيراد العشوائي والغش الذي انتشر عبر الحدود السائبة منذ عام 2003 وحتى
الآن.

ثانياً: أشارت السيدة النائب إلى أن الأدوية تستورد من إيران والهند وتعاد تعبئتها، مما يؤدي إلى فشل المعالجة الطبية، ومرة أخرى نحن غير معنيين بالحالة التي تتحدث عنها، لكن ما يجب أن تعرفه ويعرفه المواطنون أيضاً، أن بلداً مثل الهند يعتبر اليوم في مقدمة دول العالم في هذه الصناعة، وأن 15 % من السوق الأمريكية تستهلك أدوية هندية، وأن الهند تعتبر صيدلية العالم، وأن
70 % من المواد الأولية تجهزها الهند إلى شركات الأدوية
الغربية.
إن صناعة الأدوية في الهند تقدمت بشكل كبير وأصبحت تنافس أعظم الشركات الغربية في جودتها، إضافة إلى احتفاظها بميزة انخفاض الأسعار.
لقد شهد منتصف الثمانينيات حملة كبيرة شنتها شركات الأدوية الغربية ومنظمة الصحة العالمية ضد صناعة الأدوية الهندية التي قدمت حلولاً إلى الشعوب الأفريقية بشأن أمراض الأيدز  والسرطان، إذ لا تتحمل هذه الشعوب الكلفة الباهظة للأدوية الغربية، لكن الشركات الغربية عادت بعد فشل حملتها لشراء أصول الشركات الهندية أو المشاركة معها.
أما بخصوص إيران، فهي تعتبر من الدول المتطورة في صناعة الأدوية وتمتلك تقنيات حديثة، ولعلها من بين دول محدودة جداً في صناعة البدائل الحيوية، ودخلت الآن في صناعة الخامات الدوائية لتقف في صف دول مثل الصين والهند في هذا المجال الحيوي.
إن هدفنا هو التوضيح، لما تصورت السيدة النائب أنها تستخدم هذين البلدين مثلاً لتشويه صناعة الأدوية في العراق.

ثالثاً: لابد من أن نذكر بعض الحقائق المتصلة بصناعة الأدوية في العالم، ولعلنا بعيدون قليلاً عما حصل من تحولات كبرى في هذه الصناعة، ففي ظل العولمة انفتح العالم على إمكانيات التصنيع بشكل واسع، فلم تعد هناك حواجز أمام التصنيع حتى لتلك الأدوية المحمية بحقوق الملكية الفكرية، فاتفاقية الگات تضمنت فقرات تتيح للدول الضعيفة اقتصاديا تصنيع جميع الأدوية حتى المحمية منها لمواطنيها الذين لا يتحملون الكلف الباهظة للأدوية الحديثة، وصار بإمكان دول مثل الهند والصين والبرازيل النفاذ من خلال قوانين التراخيص الإجبارية لتصنيع احتياجاتها، طالما أنها تمتلك التقنيات الملائمة، ولم تعد غالبية الشركات الكبرى تنتج أدوية في مصانعها الخاصة، وإنما في مصانع (التصنيع للغير)، وأصبح اهتمامها ينصب على البحث والتطوير وتخليق أدوية حديثة، بينما استطاعت شركات التصنيع للغير أن تسد الفجوة بين العرض والطلب، ومن اللافت أن هذه الممارسات فتحت الأبواب أمام الغش الدوائي بشكل واسع، لكن العلم أصبح متاحاً للجميع بضوابط قانونية في نفس الوقت.
في عالم صناعة الأدوية اليوم:
- تصنع المواد الخام في مكان ما من العالم.
- ويصنع الدواء كاملاً أو ناقصاً في بلد أو مكان آخر.
- ويسمح بتعبئته في مكان ثالث.
- بينما تجرى البحوث في بلدان متعددة.
- وتعطى شهادات المنشأ من أي مكان من هذه السلسلة.
- وصار بإمكان أي شخص أن يشتري حق التصرف بدواء محدد ويستطيع إنتاجه في أي مكان.
إزاء وضع كهذا، فنحن مسؤولون عن البحث والتحقق والمعرفة والفهم لكل ما يجري، كي نطور إمكانياتنا وشروط العمل وفق ما يجرى في هذا العالم الغرائبي، وأن نعتمد بالأساس على تطوير قدراتنا الذاتية في مجال الفحص والتقييم، باعتبار ذلك صمام أمان لبلدنا.
من هنا نود الإشارة إلى أهمية ما يجري من مستجدات، وأن نعتمد ونشجع جميع النشاطات التصنيعية التي تحقق القيمة المضافة.
القيمة المضافة أصبحت قاعدة النجاح لاقتصاديات كبرى في دول مثل سنغافورة والبرازيل والإمارات وغيرها.
هذا هو عالم صناعة الأدوية التي قدمت السيدة النائب فتواها الإعلامية بشأنها، واستخدمت لغة العموميات التي أساءت بها للصناعة الدوائية الوطنية، بدلاً من الذهاب عبر المسارات الإدارية والقانونية وصولاً للحقيقة.

• رئيس الرابطة العراقية لمنتجي الأدوية