هل كتب علي الوردي نصَّاً ديمقراطيَّاً؟

منصة 2024/03/03
...

 نوزاد حسن

ليس من السهل أن تعثر على نص ديمقراطي، أو بمعنى أدق على كاتب ديمقراطي، وأعني بالنص الديمقراطي على وجه التحديد نصاً لا يقدم لنا حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش. وهذا هو أحد عيوب النصوص غير الديمقراطية، ولا أحب أن أصفها بغير ذلك، إذ من الممكن أن يشعر القارئ بأنه محاصر وسط كتل من كونكريت ثقيل، هي جمل الكاتب التي تخنق أي أحساس بالمتعة، وكأن النصّ أصبح غرفة مغلقة منذ سنوات.

هناك تقنية يستخدمها الكاتب غير الديمقراطي في ممارسة لعبة الحصار التي يفرضها علينا.

إنّه يقوم بتدمير عناصر نصّه إلى أبعد الحدود. فلا نرى الانسجام والبساطة، وإنما نلاحظ العبث الواضح بحيث تنقلب الحقيقة والمعلومة إلى شيئين مختلفين في سجن الكلمات.

إذن الحقيقة المطلقة، وانعدام الانسجام، وطغيان العقل هي أهم سمات النص غير الديمقراطي، ومثل هذا النص يترك أثره السيء فينا. وقد أدرك الغزالي بفطرته

(1) أن الجدل الفقهي له تأثير ضار على من يمارسه. وأظن أن النص أو الكاتب الذي يهوى فرض وجهة نظره علينا يعد كاتبا ضاراً أيضاً.

أظن أن أحد أكبر وأفضل وأعمق مثقفينا هو الدكتور علي الوردي. 

ومن الممكن أن أصفه بأنّه الكاتب الديمقراطي "الأعظم" في أدبنا الحديث. وعلى الرغم من هذا فإنه -أعني الوردي- قد تعرض لسوء فهم كبير عن قصد أو غير قصد. وما كتب عنه في الأعم الأغلب لا يرقى إلى محاولة فهمه، وإنما إلى عرض وجهة نظره وما تعرض له من ظلم على يد من خالفوه الرأي.

 من المؤسف أن دارسي ومنتقدي علي الوردي لم يتوقفوا قليلا عند ذلك الجانب الديمقراطي في كتبه. ولم ينتبهوا أيضاً إلى حماسه كي يكون واضحاً ومفهوماً الى أبعد الحدود. 

لم يعلّق أحد أو يفسّر لماذا كان علي الوردي متمسكاً بلغته الواضحة البعيدة عن الغموض. ليس هذا فقط، فهناك إصراره الكبير على جعل كتبه نماذج لحرية الفكر. أعني لن يشعر قارئ على الوردي بأنه مضطر لتصديقه والإيمان بأفكاره. 

وهذا أهم ما يعلمنا إياه، ولن أبالغ لو قلت إن قارئ علي الوردي لن يتعلم منه إلا احترام الآخرين إن هو قرأ كتبه بعقل مفتوح. أما إذا أراد أحدهم أن يقرأه بعقل مخدر.. فمثل هذه القراءة لن تصل إلى شيء مفيد، بل سينفعل هذا القارئ الأعمى، ولن يخرج من حديقة كتاب الوردي إلا متعصّباً وشامتاً.

أؤكد: أن الديمقراطية توجد أولا في النص المكتوب، ثم تصبح بعد ذلك ممارسة سياسية. ويخطئ من يعتقد أن الانتخابات السنوية التي تجرى هنا وهناك، مثل كأس العالم هي ممارسة سياسية خالصة. 

دعوني أكذب هذا بحجة بسيطة جداً من خلال العودة إلى اليونان وديمقراطيتهم القديمة، فقبل هذه الديمقراطية كانت الثقافة تتحاور من خلال مثقفي فلاسفة اليونان. وكان الموروث الفلسفي المتمثل بمحاورات سقراط التي نقلها افلاطون هي أهم دليل على ولادة نص ديمقراطي يحاور ولا يجادل، والفرق كبير. ومن يقرأ محاورات افلاطون سيعرف كيف أراد الوردي أن يصل بنا إلى ذلك الأفق الإنساني غير المغلق. 

لنقل إنّ النص الديمقراطي هو نص يكتب من دون أن تكون هناك حقيقة مقدسة يخفيها الكاتب كقنبلة بين سطوره. هذه الطريقة هي نوع من كتابة ايديولوجية مقرفة ينفر منها القراء.

إن قنبلة الايديولوجيا مهما أخفيت سيحس القارئ بها وبمحتواها القاتل. هذا يعني أن هناك كتباً ونصوصاً تخفي قنابل للقتل والاغتيال، وأن هناك نصوصاً أخرى تختلف عن نص الكاتب الدكتاتوري الذي يريدنا أن نؤمن بقناعاته التقليديَّة. 

إذن لا بدَّ من طرح هذا السؤال المنصف جدّاً: ما هي تقنية علي الوردي التي استعملها في كتبه؟ وقبل الاجابة أفضل القول إنّ هذا السؤال لو طرح على الوردي لضحك منه، لأن عالم اجتماعنا الكبير كان يسخر من المصطلحات الثقيلة التي يفضل كثير من المثقفين استخدامها. علي الوردي نمط آخر، نموذج ثوري لمثقف كان يريد أن يجعل قرَّاءه واعين ومنتبهين وغير صغار التفكير. وإذا أردنا أن نفهم معنى كلمة الخيانة عند الوردي فسيكون أفضل تعريف لها هو هذا التعريف البسيط الواضح: الخيانة تعني لغة غامضة جدليَّة يستخدمها الكاتب ليخدع القرّاء. أظن أن هذا أفضل تعريف للخيانة. وهكذا سيكون أكثر المثقفين خونة للقارئ هو ذلك المثقف الذي يخفي قنابل ملونة في كتبه، وما هذه القنابل سوى قناعات وأهواء وأفكار يحاول الكتاب فرضها على قرائه.

في اعتقادي أن الوردي يشبه "كارل ماركس" في محاولته الصعبة لجعل العمال الذين يكتب لهم يفهمونه.

(2) وفي الجزء الأول من راس المال برر أكثر من مرة صعوبة الفصل الذي يتحدث فيه عن السلعة. وعزا ماركس هذه الصعوبة إلى طبيعة الموضوع. لذا كان ماركس مهموماً كما أظن بمسألة أخلاقيَّة تتعلق بحرص الكاتب على أن يختار طريقاً من طريقين، فأما أن يكون كاتباً ديمقراطياً واضحاً أو أن يكون كاتباً دكتاتورياً يخفي قنابله بين سطوره.

النص الديمقراطي نص غير جدلي، ويتساوى الجميع فيه بحق التفكير واختيار الآراء. كيف؟

كتب علي الوردي مثلا. إنّ القارئ وكل ما يذكره الوردي من معلومات، ووجهة نظره، ونقده للمجتمع وللفرد تقف كلها في مستوى واحد اسميه: الدعم الإلهي للاختلاف. لاحظوا حين يتحدث عن التاريخ الإسلامي في مراحله الأولى كيف يعرض بدقة ما جرى، ثم كيف قدم وجهة نظره من دون أن يقمع أي رأي آخر، أو فكرة يعرضها. الوردي يحاور من دون قمع لأية فكرة تختلف عنه. كان يسعى لتهديم الأصل الأول الذي تبنى عليه معارف الآخرين الذين يكتبون ضد منهجه الديمقراطي الشعبي. إنه يسخر من قناعاتهم وقنابلهم الموقوتة، وكان يبطل توقيتها كي لا تنفجر. 

بكلمة أخرى، كانت مهمة الوردي إبطال مفعول مئات القنابل المدمرة. وهكذا نجح في أن يكسب القارئ إلى صفه. 

وما زال الوردي مقروءا ويمارس دوره في مهاجمة النصوص المليئة بالقناعات الباردة التي تريد احتلال عقل القارئ وجعله يؤمن بفكرة واحدة لها تأثير الديناميت. هذه هي حكاية علي الوردي الإنسان، ومنهجه كمثقف في تعليمنا كيفية الابتعاد عن قنبلة تقتلنا.

أظنني ابتعدت عن سؤالي الذي طرحته سابقاً عن تقنية علي الوردي في كتابة نص ديمقراطي. 

ويبدو أنني تطرقت إلى الاجابة أثناء حديثي إلى ملامح أسلوب علي الوردي. 

ومع ذلك يبقى جانب مهم جدا لم تتناوله الأقلام والدراسات الأكاديمية يتعلق بدور الوردي في خريطة أدبنا الثقافي الحديث.

لكن لا بدّ من الاشارة إلى طبيعة تفكير الوردي. هذه الطبيعة الغريبة التي جرت عليه عداوة أشخاص مختلفي الأمزجة: رجال الدين والمثقفون وأساتذة علم اجتماع ورجل السياسة. الجميع وجهوا أسلحتهم لهذا الرجل الاعزل. لكن كيف اتفق الجميع بهذا الشكل على مثقف تنويري هدد كيان هؤلاء جميعاً. 

أظن أنهم أي من انتقدوا علي الوردي حاولوا أن ينتقدوا بعض أفكاره لكنهم لم يعرفوا حقيقة كرهه لهم. مثلا الأكاديمي ينتقده لأنه لم يكن رجل احصاء دقيق. هذا النقد المضحك هو نقد شكلي بلا قيمة. إن ما فعله علي الوردي هو أنه قلب الطاولة بكامل اوراها. 

بكلمة محددة: هدم علي الوردي هوية الجميع حين كتب باسلوب ديمقراطي يخلو من الحقيقة التي يعتقد الكثيرون انهم يمتلكونها. هو لا يمتلك اية حقيقة، وهو يهدم ويحاول أن يدفعنا نحو البحث لنتغير. 

لذا لم يفهمه نقاده جيداً، وانتقدوا بلا عمق وجهة نظره التي اعتبروها عدائيَّة الى حدٍّ بعيد.




----

1 - الغزالي، احياء علوم الدين، مجلد اول، قسم اول، دار المنهاج 2011، ص9

2 -كارل ماركس، راس المال، ترجمة فالح عبد الجبار، دار الفارابي ص15، ص16.