مكّي زبيبة يؤرشف القلق والفوضى

منصة 2024/03/03
...

  هدى عبد الحر

كانت وما تزال البيئة النجفيَّة بعمقها الثقافي والمعرفي بيئة خصبة ولادة منتجة، لذلك لا غرابة أن تكتظ قوائم مبدعيها بأسماء كبيرة لامعة كثيرة في مختلف فنون المعرفة، وليس في الجانب الفقهي والديني فقط، بل من نافل القول أن نشير أن شاعر العرب الأكبر الجواهري نجفي المولد والهوى ورائد القصة القصيرة في العراق، والكاتب جعفر الخليلي نجفي أيضاً، فضلا عن أسماء لامعة كثيرة، بل لعلنا لا نجانب الحقيقة أن قلنا إن الصحافة العراقيَّة تأسست في النجف.

حيث كانت جريدة الهاتف التي استمرت من عام 1935 وحتى عام 1954 من أوائل الصحف العراقيَّة التي عمّرت طويلا، كما لا يمكن أن ننكر أن بواكير الوعي الوطني، قد كانت نجفيَّة جدّاً، فالأحداث الجسام التي جرت في ثورة النجف 1918، ومن بعدها ثورة العشرين وما تلاها لها الأثر الكبير.. فكان من مبدعيها أيضا الكاتب والأديب والمسرحي مكي زبيبة الذي ولد في النجف الأشرف عام 1937 وعاش في أزقتها العتيقة وتفتح وعيه مبكراً على كتبها ومدارسها ومنتدياتها.  

أكمل زبيبة دراسته في كلية الفقه عام 1969، ثم سافر إلى الجزائر للتدريس عام 1970، بعدها عاد للعراق ليعمل مدرّساً في واسط والديوانية، ثم كانت النجف محطته الأخيرة، حيث درّس في معهد إعداد المعلمين، وكانت أول قصة منشورة له هي (خبر ملعونة1971) ومن قصصه الأخرى التي ظهرت في صحف ومجلات عراقيَّة وعربيَّة: البحر مرة أخرى، المولود التاسع، نخلة أم جابر، البكاء مرتين، قريب من المطر، العودة إلى الخضرة.

كما وأصدر روايات عديدة منها: هكذا الرجال، يوم من أيام النجف، ممرّ الشهادة. وله رواية مخطوطة بعنوان (البحر مرة أخرى).

ترأس زبيبة اتحاد أدباء وكتاب النجف منذ العام 1987 حتى وفاته عام 1992، ومن كتبه المهمة التي رأت النور بعد وفاته بفترة طويلة، كتابه (يوميات الحرب والانتفاضة) الذي يؤرخ فيه فترة عصيبة وحرجة جداً، بعين قاص وروائي عاش التجربة بكلِّ حذافيرها، إذ يكتب يومياته للفترة الممتدة ما بين (17/ 1/ 1991 إلى 29 / 3/ 1991). 

ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب، كونه وثيقة صادقة من شاهد عيان أراد أن يدوّن كل ما شاهده مع لحاظ أنّه كان يكتب تحت ضغط الخوف، فأي سطر ممكن أن يكتشف أو يتسرّب سيكون مصير كاتبه هو الموت من دون شك ولا ريب، لذا نلاحظ حذره الواضح في كثير من التفاصيل وحرصه على نقل المعلومات بطريقة بها من الذكاء الكثير، وهذا ما جعل الكتاب يبدو في أحيان كثيرة يحتاج إلى قراءة ما بين السطور أكثر من قراءة الظاهر.

بدأ مكي زبيبة يدوّن يومياته، وكيف جرت الأمور في مدينة النجف خاصة، وفي العراق عموماً، إذ يصور لنا المجاعات والمعارك الدامية والقلق والفوضى، وكيف دبَّ الظلام في البلد بأكمله، وقد اختار اللغة الوصفيَّة البسيطة، مبتعداً عن التعقيد والتفاصيل الهامشيَّة التي تثقل النص: (السبت 16ـ 3 ـ 29 شعبان ليلة أخرى مرصّعة بالقصف المدفعي وبأصوات الطائرات ليلة بطولها لم تهدأ المدفعيَّة لحظة واحدة وهي تضرب كل أحياء  النجف كلها نساءها ورجالها أطفالها وشيوخها هدفها وتصبح على قصف أشد وعلى أصوات عشرات الطائرات المروحيَّة والكل في بيته منتظراً 

موته).

ويقول في موضع آخر، واصفاً مشاهد مروعة عن حال الناس في المدينة المنكوبة: (وبدأت مسيرة النساء والأطفال والشيوخ تسير تجاه طريق كربلاء أكثر من خمسين ألف مواطن بين امرأة وطفل وشيخ ومريض غادر مركز المدينة هذا يحمل غالون الماء وآخر بطانية وامرأة عجوز كسيحة محمولة على عربة دفع يدوية وشيخ بصير يتوكأ على عكازه وتقوده امرأة يسيرون مع الزحف الهائج والهارب من الموت نحو طريق كربلاء).

إنّ أمثال هذه الكتب تسدّ فراغاً كبيراً، فراغاً تحتله التقولات والاحتمالات والافتراضات عن مرحلة حساسة جداً، وثقت من وجهة نظر واحدة وتعرضت للتشويه المتعمد كثيراً، لذا ظهوره مهم جداً، بل ضروري حتى تتضح الصورة كاملة ويصبح التأريخ كما هو والحقيقة كما حدثت تماماً .

يقول محقق الكتاب، وهو نجل الكاتب: (الانتفاضة الشعبانيَّة الجرح الذي لا يندمل: كتبت هذه الكلمات من قبل المحقق بعيد انتهاء الانتفاضة الشعبانيَّة الباسلة بقليل، وما زالت القلوب تقطر دماً جراء القتل والهدم والتنكيل الذي قام به صدام وأزلامه المدجّجون بأنواع السلاح الخفيف منه والثقيل، وقد فضلت تقديمها كما هي في هذه المقدمة، وقد تمّ الاحتفاظ بالأوراق بين الكتب في مكتبة السيد مكي زبيبة وكنت حينها قلقاً من أن يعثر عليها مثلما كنا قلقين على الدفتر الذي كتبت به هذه اليوميات، إذ سعينا الى الاحتفاظ به، ولا سيّما أيام دخول الجيش إلى النجف الأشرف وتفتيشه البيوت بيتا.. بيتا، ولكنا تمتعنا بالشجاعة وخبَّأنا الدفتر بين آلاف الكتب الموجودة في مكتبة السيد مكي زبيبة رحمه الله).