رضا المحمداوي
غادرت الدراما العراقية الأجواء البيئية الاجتماعية القديمة التي باتت توصف اليوم، قياساً بالمواصفات الفنية السائدة حالياً، بأنها كانت بسيطة أو ساذجة أو حتى بريئة، حيث الموضوعات بطابعها الاجتماعي المألوف الذي عُرِفَتْ به سابقاً، وبدأتْ تنحدر تدريجياً نحو عوالم العنف والجريمة وعمليات القتل والإختطاف والتصفيات الجسدية ذات الطابع السياسي، وهو الملمح الرئيس الذي يمكن تشخيصه والإشارة إليه من خلال الأعمال الدرامية، التي شاهدناها على شاشة التلفزيون منذ عام 2003.
ومع توالي المواسم الدرامية السنوية إزدادتْ ظاهرة العنف رسوخاً في عالم الدراما العراقية، حتى أصبح العنف موضوعاً رئيساً من الموضوعات الدرامية شبه الجاهزة، والتي غالباً ما يلجأ إليها المؤلف الدرامي سواء باختياره الشخصي، أو بناءً على توصية أو استكتاب من قبل القناة الفضائية المنتجة.
- فهل أصبح العنف بهذا المعنى ظاهرة درامية – فنية مفتعلة يلجأ اليها صانعو الدراما لدينا من المؤلفين والقنوات الفضائية المنتجة لغرض التشويق والتسويق؟
أم أنَّ الأعمال الدرامية ذات الطابع العنيف تعبّرُ عن رؤى وتوجهات ثقافية مهيمنة باتت تحكم قبضتها على المجتمع وتحرك دفة مفاصله بصورة عامة في الوقت الراهن؟
وأقرب نماذج هذا النمط الدرامي وتوجهاته الفنية هو الموسم الدرامي للعام الماضي 2023 حيث حفل بالعديد من الأعمال التي اتخذت العنف مادة رئيسة لها من حيث الفكرة العامة والموضوع، وفي التناول الدرامي والمعالجة الفنية.
ونتوقف اليوم عند مسلسل (بغداد الجديدة) لمؤلفه مصطفى كاظم، ومخرجه مهند حيال كنموذج لهذا التوجه والأسلوب الفني.
المسلسل بحلقاته العشر تم اقتباس فكرته من رواية (الكونت مونت كريستو) الشهيرة لمؤلفها (الكسندر دوما)، لكن نجاح المعالجة الدرامية جاء نتيجة لرسم أكثر من محور وخط درامي تشابكت في ما بينها وقاربت الواقع العراقي، متخذة من المخدرات وعالمها وتعاطيها وتجارتها محوراً رئيساً
له.
وأثارتْ أو لامستْ من جانب آخر، موضوعات وأفكار في غاية الأهمية مثل الإشارة إلى فشل انتفاضة تشرين عام 2019 وما أشاعته من إحباط وانكسار في نفوس الشباب، بعد تصفيتها الدموية من قبل السلطة آنذاك، وكذلك التعرض لأزمة الصحافة الورقية، فضلاً عن فضح ما تشهده بعض القنوات الفضائية من انحطاط وتدنٍ في التعامل مع أخلاق المهنة الإعلامية.
كائنٌ هجين
تنطلق الأحداث في المسلسل من عملية دس المخدرات في سيارة أستاذ الإعلام ( حسن- باسم قهار) من قبل طالبته (ندى-نريمان الصالحي) بالإشتراك مع طالب الإعلام الآخر وزوجها في ما بعد (سامر- أمير إحسان)، ومن جانب آخر وفي ذات المحور تحوَّلَ طالب الإعلام (طيف-خالد عمران) من صحفي ناشئ إلى متعاطٍ للمخدرات، ومن ثم المتاجرة بها مع عصابة تحترف هذه
التجارة.
لكن أخطر ما في المسلسل هو التبدّل أو التحوَّل الذي يظهر تدريجياً على شخصية (حسن) الأستاذ الجامعي، الذي تدفعه ظروفه الشخصية التي وجد نفسه في خضمها ليكون خلف القضبان، ومن ثم تخلّي زوجته (هديل-رنا جعفر ياسين) عنه وطلبها للطلاق منه، لتتزوج من صديقه (ناصر - شوان عطوف) وبعد خروجه من السجن، وبدافع الإنتقام والثأر لنفسه يبدأ تصفية حساباته مع من كان السبب في ما جرى له، لكنه خلال ما يقوم به، يتحوَّل أو ينقلب إلى شخصية قاتل أو مجرم محترف، لا يتوانى عن استخدام السلاح ضد أقرب الناس إليه ويساعده في ذلك السجين السابق (عامر- مازن محمد مصطفى) الذي تعرف عليه في السجن، كما أنه بدأ يستخدم العديد من أساليب التخطيط والسلوك الاجرامي المتقن.
وتكمن خطورة هذا التحوَّل أو الانتقال من طور إلى طور آخر من أطوار الشخصية إنه جاء على النقيض مما كانت تؤمن به شخصية أستاذ الإعلام، حيث كان يقرأ ويكتب ويحارب الفساد بواسطة مقالاته الصحفية ويحلم بتغيير وإصلاح الناس والمجتمع، وهو بهذا التحول والانتقال إنما يجسد شخصية المثقف المتناقض مع نفسه والمهزوم من الداخل، وكأنه يعاني من انفصام الشخصية، فقد دخل إلى سجن نفسه ولا يعرف متى أو كيف يخرج منه مثلما يعبر في أحد حواراته، لا بل أنه يصرّح بأنهُ ما عاد يعرف نفسه، فقد تخلّى عن أفكاره ومبادئه ليؤمن أخيراً بالمقولة الشائعة:إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب،والتي تحوَّل الإنسان إلى كائن هجين.. وها هو قد أصبح ذئباً بشرياً؟!
وفي الوقت الذي كان يفترض بهذه الشخصية المثقفة والواعية أن تكون حاضرة بشكل إيجابي وبفعل مؤثر في وسطها الاجتماعي والمهني، نجدها على العكس من ذلك قد بدأت الرحلة بالانحدار نحو الحضيض، لينخرط الأستاذ الأكاديمي (حسن) في عالم الجريمة والعنف بعد أنْ أعلن هزيمته الفكرية وإفلاسه الصحفي بإغلاق مقر جريدته (بغداد الجديدة)، في الوقت الذي كان يؤمن فيه، بأنَّ الجريدة الورقية هي أساس الصحافة، لكن مواقع "السوشيل ميديا" وقنوات "اليوتيوب" قد سبقتْهُ في الوصول إلى الجيل الجديد الذي بدأ الانترنت بممارسة سلطته عليه.
وكانت لقطات إنزال أو إسقاط يافطة الجريدة (بغداد الجديدة)، التي أخذ المسلسل عنوانه منها، وكذلك تحطيم صورة عالم الاجتماع الراحل علي الوردي في إحدى اللقطات، وإدارة وجه الصورة نفسها إلى الحائط في لقطة أخرى من المشاهد الأخيرة للمسلسل.. كانت من اللقطات المُعبّرة فنياً وحملتْ معها دلالاتها العميقة في التعبير عن المتغيرات الكبيرة التي شهدها المجتمع. وفي السياق نفسه تجيء عنونة المسلسل من عنوان البرنامج التلفزيوني (بغداد الجديدة)، الذي تقدّمُهُ (ندى) في إحدى القنوات الفضائية الحزبية التي يديرها أحد الفاسدين.
جرائم قتل متعددة
وللتأكيد على الطابع العنيف للمسلسل نذكر العديد من مشاهد القتل التي أجاد المخرج تنفيذها، حيث نبدأ من الجريمة الأولى بمقتل (عبد الرحمن- طه علوان) من قبل (ناصر) بعد المشاجرة مع (هديل)، وقيام (حسن) بقتل كل من (عادل) الملقب بـ (الجنرال) ومن ثم قتله لتاجر المخدرات الملقب بـ (زومبي)، وبعدها حادث مقتل (ريمه) عن طريق الخطأ من قبل (طيف) بمسدس كاتم الصوت، ومن ثم إصابة (حسن) لـ (طيف) في كتفه للتمويه عن جريمة القتل، وبعدها مقتل السائق الخاص لـ (عامر)، ويختتم المسلسل هذه الجرائم بعملية لتبادل إطلاق النار بين
(حسن) و(عامر) وتنتهي بمقتل الأخير.. هذا فضلاً عن العديد من المشاجرات الدموية التي حفل بها المسلسل.
وفي التمثيل أودُّ التوقف عند الأداء المميز والمتقن للفنان باسم قهار، وهو يؤدي شخصية (حسن) بكهولتهِ وتجاعيده ولحيته المهملة ووجهه المتجهم، الحزين، إنه ليس شاباً وسيماً وليست لديه ملامح جاذبة، ولا يعتمد على الأزياء وتسريحة الشعر الملفتة، لكنَّ (باسم ..) هنا يراهن على جمالية أدائه وعمق تعبيره والفهم السايكولوجي للشخصية والتفاعل الذكي المبني على الفهم العميق للأداء، وأحسب أنَّ هذه الثقة الداخلية له تمدُّهُ بهذه الطاقة والحيوية والحضور الفني المتميز.