د. أحمد الزبيدي
كان الفيلسوف ابن رشد في ذات يوم في حضرة المنصور مع أبي بكر بن زهير العالم المشهور وهو من أشبيلية، فأخذ ابن زهير يظهر فضل أشبيلية، وابن رشد يظهر فضل قرطبة، فقال ابن رشد: (إذا مات في أشبيلية أحد العلماء وأريد بيع كتبه، فإنها تحمل إلى قرطبة، لتباع فيها لعدم اهتمام الأشبيليين بها، وبالعكس إذا مات مغن في قرطبة فإن آلاته تحمل إلى أشبيلية)،
ماذا لو سئل ابن رشد عن بغداد، التي سبقت ولادته، فيا ترى ما جوابه عن مدينة علمت الحضارة العربية ما لم تعلم! و يا ترى - أيضًأ - ما قوله لو سئل عن بغداد، التي لحقت وفاته، أعني اليوم، فأي الوصفين سيليق بها؟
أتحمل كتبها إلى الأقطار الأخرى؟
أم ستُؤتى إليها؟ وهل كان رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد جادًا حين وقّع بالسجل العراقي يوم احتفى معرض الكتاب التونسي بالعراق فكتب (أعلم أن شوارع بغداد هي معرض مستمر على مدار السنة للكتاب..) لا شك في أنه يقصد بغداد التي قرأ، ما دونته كتب التأريخ عنها، وربما اطلع على كتاب الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد) وتأمل مقدمته التي ذكر فيها دهشته من رؤية كثرة باعة الكتب على باعة الخضر والفاكهة! أو كان يقصد بغداد التي أنتجت (الحداثة).. لا يهم أيهما قصد ولكن؛ ألا يليق بهذه العاصمة الأبدية معرض للكتاب بحجم حضورها الفاعل في الثقافة العربية؟ لماذا لا تتبنى رئاسة الوزراء إقامة معرض مركزي مثلما تتبنى المجسرات - مثلًا - التي هي من مسؤولية أمين العاصمة! وبدلا من خطّ اسم رئيس الوزراء على سوق مركزي تحت رعايته لبيع الدجاج بأسعار مدعومة وشكره من قبل مدير السوق، فليعلق بوسترا عريضا يعلن فيه عن تبنيه المباشر لمعرض الكتاب؟ فمصطلح (رعاية) يشبه راتب الرعاية الاجتماعية الذي لا يجلب مأتيا ولا يدفع مقضيا.
ألا يكفي من تشظيات الهوية العراقية المركزية بين طوائف ومذاهب وقوميات وإيديولوجيات وميليشيات حتى يصل التمزق إلى التشظي المعرفي؟ فبين الشهر والآخر تنبري جهة معينة لتعلن عن إقامة معرض مركزي للكتاب، برعاية رئيس الوزراء - ساعده الله على الذهاب والإياب - وتتخوف بعض دور النشر المشاركة عن عدم دعوتها في المعرض اللاحق، لأنها شاركت في معرض قبيلة متناحرة ومطلوبة للثأر من قبيلة المعرض القادم.. والمحزن أن أول سؤال أو عتاب يواجهه المثقف العراقي المشارك في معارض عربية هو: متى سيشهد العراق معرضا مركزيا للكتاب، حتى أن بعض الدور المهمة أعلنت عدم المشاركة، لأن دعوتها من جهة غير رسمية، وهذا ما يقلل من شأن حضورها وعدم الدعم المباشر لها وضمان ربحها.. والغريب في الأمر أن الأرض التي يقام عليها المعرض هي أرض حكومية تعود للدولة ولديها وزارة يا لكبر حجمها وحجم اسمها وعدد موظفيها مختصة بالثقافة. والأموال، وبفضل الحروب، طائلة حتى أنها أعني الحكومة خصصت المليارات تلو المليارات للمهرجانات الأدبية والفنية.. ماذا لو اقتطعت الحكومة جزءًا من هذه الأموال وخصصتها لإقامة معرض مهيب تدعو فيه كبار المثقفين المتشوقين لرؤية بغداد وشارع المتنبي وحواريها وضواحيها.
أعلم جيدًا أن حاملي السلاح يريدون أن يعكسوا تصورًا آخرعنهم بحمل الكتاب والتعبير العملي عن اهتمامهم بالمعرفة والإبداع والتأليف وتصدير ثقافتهم بالمنابر الرسمية، التي تضفي على الفعالية حضورا شرعيا، لتتسنى لهم القدرة على التوغل في (المدينة) فالنجاح خارج أسوارها يتحقق بالسلاح، أما في داخلها فهو مطرود ومعزول، ومن ثم لا بد من وسيلة أخرى للحضور وهل سوى (الكتاب) من وسيلة؟ وهل غير المعرض من سوق للقرابة من المؤلف والقارئ والناشر؟ وهذا يتطلب التسابق الزمني حتى يكون الأول وما دونه الثاني وحصل هذا فعلا حتى أن وزارة النقل دعمته والبنك المركزي يعطي خمسة وعشرين ألفًا للزائرين من طلبة المدارس والكليات وهي خطوة جيدة، إلا أنها تشبه الرقعة التي لا تخيّط شقًا كبيرا في الجسد العراقي المتخم بالشقوق. دعم الكتاب ومعرضه لا يكون بورقة نقدية حمراء يسميها العراقيون الشعبيون (معجونية) بل من خلال إقامة تقاليد مركزية متبناة من قبل الدولة نفسها: دعم دور النشر الرسمية التابعة لوزارة الثقافة، أو إقامة مراكز ثقافية جديدة، أو لماذا أتعب نفسي بالمقترحات وهي ذكرت في كل لقاء مع من يترأس الحكومة ؟
لقد شاركت في معارض عربية متعددة: المملكة العربية السعودية، ودولة الكويت، وجمهورية مصر العربية.. وفي كل واحد منها أجد الدولة حاضرة بكل أناقة هويتها، لا أعني رفعة التنظيم ودقة القانون وضبط إيقاع الندوات والمحاضرات، فهذا أمر مفروغ منه، وإنما أعني (فلسفة الدولة) من حيث مخرجات الفعالية، وتقديم الانموذج الأمثل لـ (الهوية) الوطنية وتجسد النسق الثقافي للبلاد في درجة عالية من الوضوح والتمثل.. فأنت تبصر الفضاء الخاص للبلد وأمام واجهة مؤسساتية تنتمي إلى الدولة لا غير؛ فلم يكن المعرض منسوبًا لشخصية معينة أو مؤسسة أهلية. إنك أمام فضاء رسمي، وهذا يحتم عليك أن تكون بمستوى المسؤولية التي حملت بها، بوصفك مدعوًا من بلد إلى بلد وليس بوصفك شخصًا مدعوًّا من قبل صديق! ولا شك في أن ما تحقق في العراق من معارض للكتاب له أهميته وفائدته، ومنها قدوم العائلات العراقية من مختلف المحافظات للتبرك بالكتاب واقتناء المثقف العراقي لأهم الإصدارات الحديثة، والتعارف المعرفي بين الكتاب والقراء، والفعاليات والندوات المهمة.. فلا يمكن أن يُبخَس حق القائمين عليها. غير أن الفعالية حين تكون من قبل جهة فئوية محددة فإنها لا تمثل رؤية كلية للبعد الثقافي، ويجعل التوزيع بين الأدوار يشوبه الارتباك فعلى سبيل المثال وفي المعرض الأخير فوجئت بمشاركة دار أفريقيا الشرق ذات الإصدارات المهمة والمفارقة أن الدار كتب عليها اسم ( السعودية !) وما هي بسعودية فما هذا التخبط؟
والأمر المحزن أن ضابط الأمن وهو بشوارب القرصان أنذر البائع العراقي المسكين في هذه الدار. أنذره بتهديد! وحين استفسرت من الشاب المصفر الوجه عن السبب قال بسبب كتاب (التربية الجنسية عند المراهقين للدكتور مصطفى الراسي) تعجبت من غيرة الأمن الوطني على سمعة العراق وشرفه، في منع كتاب تربوي معرفي وغض الطرف عما يجول في الملاهي الليلية وما يهيمن على مواقع (الثلوث) الاجتماعي! غياب فلسفة الدولة هو الذي أدى إلى غياب المركزية والتنظيم الرسمي لمثل هكذا فعاليات وهو السبب لأن يكون (الرصاص) حاضرًا للتعبير عن (التنافس المعرفي).