{تشريح السقوط}.. صورة سعيدة لماضٍ متوجٍ بالموت

ثقافة 2024/03/04
...

  مروان شوقي    

يبدأ الفيلم بشاشة سوداء عليها جملة {ماذا تريدين أن تعرفي؟}. يظل الصوت خارج الكاميرا وبعد بضع لقطات تدخل الكاميرا الدردشة الشخصية بين الروائية الناجحة {ساندرا} وأحدى طالباتها، الدردشة الشخصية عن حياة الطالبة التي تكون مريحة وحميمة، الى أن تفرض الموسيقى الصاخبة، التي يسمعها {صموئيل} زوج ساندرا وجودها المزعج عليهما، فتتحول الدردشة الهادئة الى التوتر الكافي لإنهائها.

مشهد افتتاحي متوتر ومزعج بهدوء، ليكون مقدمة مناسبة ومعرفة لما سيكون عليه الفيلم خلال باقي الساعتين والنصف.
 من الوهلة الاولى التي نشاهد فيها بوستر الفيلم، نشاهد صورة لثلج كُسر بياضه بجثة بقع دم، لتتكون لوحة بغموض كافٍ لصناعة فيلم. يسقط صموئيل من علية المنزل ويموت، يستنتج المحققون احتمالين: القتل أو الانتحار، السؤال الاسمي الذي يحوم حول القصة هو ما إذا كانت ساندرا قد قتلت صموئيل بالفعل، أم أن صموئيل المكتئب ألقى بنفسه من النافذة. ومع ذلك، فإن السؤال الأساسي (والأهم) هو ما إذا كان بإمكاننا معرفة الحقيقة أو فهمها بشكل كامل. إن السقوط الجسدي الذي يثير التحقيق، والمحكمة، هو مجرد تتويج لعلاقة في السقوط. الهبوط القاتل هو استعارة للاتجاه الذي سار فيه زواج ساندرا وصموئيل منذ أن أدى حادث سير إلى إصابة ابنهمها "دانيال" بضرر دائم في العصب
البصري.
 تعتمد دراما قاعة المحكمة بشكل كبير على قوة بناء السيناريو الذي يتدرج بتصاعد. فهي مفعمة بالحيوية والحركة المثيرة للتفاعل، وعلى الرغم من كون إيقاعات هذا النوع من الأفلام محدودة الى حد ما، الا ان "تشريح السقوط" يحتوي على كل ما تتوقعه من فيلم جريمة مثير، فثمة لغز أعمق من لحظته الأولية، وجهات نظر متناقضة، وأدلة تتقافز لتنقل القضية الى حالة الحرجة..  
 تهتم المخرجة بالتراجع عن استعارات النوع، كلما استطاعت إنشاء صورة أكثر فوضوية، ولكنها أكثر إشراكًا للعديد من الصور التي تستخدمها لشرح -السقوط الفخري-
الذي احالته لسقوط اخر.
الفيلم الذي اخرجته "جوستين تريت" وشاركها كتابة السيناريو زوجها "ارثر هراري" قدم دراما مثيرة في قاعة المحكمة تحتوي على كل الإيقاعات التي نتوقعها، ولكن بطريقته المبتكرة.  
يبدأ الفيلم بغموض تقليدي، لكنه يتحول إلى تحليل نوع مختلف من السقوط عن النوع الحرفي. تشريح لعلاقة زوجية، يتعامل معها بالمشرط. فحص للزواج من جميع الزوايا مع ترسيخ فكرة أننا لا نستطيع أبدًا، أن نفهم أي شخص غير أنفسنا.
عمدت المخرجة الى عدم تحدث بطليها ساندرا وصموئيل بلغتهما الأم، فهما يجدان أرضية مشتركة في اللغة الإنجليزية، كي يتفاهما بشكل كامل على رحلة فهم النفس والتعاطي معها، فضلًا عن فهم الاخر.
 تحاول المخرجة استجواب كيفية تواصل الأزواج، أو فشلهم في القيام بذلك، ومآلات هذا الفشل، اذ يشير "تشريح السقوط" الفائز بسعفة كان 2023، بشكل مقنع إلى أن كل زواج هو في النهاية أمر غامض، صحيح أن صموئيل لم يعد حيا للدفاع عن نفسه، وبذا من فالصعب تحديد من يقول الحقيقة هنا. ومع ذلك، لم أستطع إلا أن أنجذب نحو جانب ساندرا. هناك شيء منعش في البراغماتية التي تظهرها في مواجهة عدم أمان صموئيل، والطريقة التي ترفض بها تغيير حياتها المهنية أو الزوجية. وطريقة تصوير مشاهدها في المحكمة، توضع الكاميرا فى مستوى منخفض عنها تعبيرًا عن قوتها، وتظهر بشكل أقل ارتباكًا من متهمة في جريمة قتل. انتهيت من الفيلم وأنا معجب بعزم ساندرا، بينما مازلت أتساءل عما إذا كان هذا العزم قد قادها إلى فعل ما لا يمكن تصوره؟،  
هل الحقيقة تكمن في مكان ما بينهما أم أنها تشمل كلا الواقعين؟، أم أنها ببساطة غير موجودة؟ تستخدم تريت بمهارة شعورًا معاصرًا فحواه: أن تصوراتنا للواقع أصبحت الآن لها الأسبقية على الواقع نفسه، وهي الفكرة التي شقت طريقها ليس فقط إلى سياساتنا (حيث تكون الحقيقة مرنة دائمًا)، والعلاقات بين الأشخاص، ولكن أيضًا الى الحقائق الأساسية للوجود الإنساني.
 يكشف تشريح "السقوط" عن قدرتنا على تحويل ما يمكن معرفته إلى سؤال غير قابل للإجابة يتوسع باستمرار. واتضح أن لعنة الرغبة في معرفة كل شيء، هي الإدراك النهائي أننا لا نعرف شيئًا.
فبينما يتخذ الخبراء موقفهم للإصرار على أن نسختهم للأحداث صحيحة، يتحول التصوير الى أسلوب مضغوط ولقطات مقربة، عند مشاهدة أحد الشهود، وهو يتفادى أسئلة كل من الادعاء والدفاع، تمسك الصورة به بينما تتحرك الكاميرا ذهابًا وإيابًا، لمواكبة الأسئلة والحجج المتناثرة من كل جانب، توظف المخرجة في بعض الأحيان تقنيات مشابهة لتصوير فيلم وثائقي، هناك لقطات متبقية لمواقع مهمة متروكة غير مأهولة مثل مسرح الجريمة، كرسي فارغ او درج، مونتاج للصور العائلية، اصوات الاشخاص خارج الكاميرا في مقابلة المشهد الافتتاحي.
يمتلك الفيلم أسئلة عميقة حول شخصياته، لكنه يكتسب أقصى قوته من خلال إدراك أنه لا يملك كل الإجابات.