دكاكين العطارة.. الغربال الذي يحجبُ أكاذيب المشعوذين

منصة 2024/03/05
...

 عمان: يعرب السالم

تعد العطارة أو الحواج بحسب التسمية القديمة من أقدم المهن الشعبيَّة التي ظهرت عند مختلف الشعوب ونشأت منذ بداية اعتماد الإنسان على التداوي بالأعشاب، وكذلك عبر إضافة نكهات منها إلى الطعام في عملية تمارسها ربة البيت، وتسمى بـ {التبهير} أو البهارات. ويرجع بعض المؤرخين مهنة {اعتماد الأعشاب} لأزمان بعيدة، حيث إنها قد ذكرت في ألواح السومريين الطينية قبل 2600 عام ق.م، آخرون يقولون إنها ظهرت في حضارات أخرى كالفرعونية والصينية وغيرها، ومنهم من ذكر نشوئها عند سحرة أفريقيا القدماء.
قد تختلف الآراء حول النشوء، لكن ما يجمع مهنة العطارة هو أنها أقدم صيدلية عرفها الإنسان قبل علم التداوي الحالي أو الصيدلة، وهناك من يسمي التداوي بالأعشاب بالطب البديل، بل نستطيع القول من باب العتاقة إن العطارة هي "صيدلية الزمن القديم والحديث معا". ولابد من ذكر أن تسمية عطار أو العطارة جاءت بسبب كثرة المواد العطرية التي تفوح روائحها من دكاكينها ومحلاتها.

ورغم ما للعطارة من جماليّة كمهنة شعبيَّة قديمة وفائدة بالنسبة للناس، إلا أنها لم تخلو من مشكلات صاحبتها، مثل إتهام العطارين بتجهيزهم لوصفات تستخدم في السحر، أو أنهم يغشون الناس عبر تحضير وإعداد تلك الوصفات غاية في التربح كالمساعدة على الإنجاب أو تبطل السحر أو مداواة الأمراض المستعصية. 

ويقول أحمد وليد،50 عاما، صاحب محل عطارة في السوق البلدي بعمان، إننا: نمارس هذه المهنة منذ أكثر من أربعين عاماً، لذا فإن زبائننا عادة ما يكونون من جنسيات مختلفة، يبحثون عن حاجتهم من بهارات مشكلة، وزيوت عطرية ونباتية، وأعشاب طبية، وعسل طبيعي، ومقويات جنسية. 

وتستخلص المقويات الجنسية من الأعشاب، وهي معروفة مثل "عشبة الجينسغ وحبة البركة والكاجو" وتكون مخلوطة مع العسل بعد طحنها، وتوضع في علب بلاستيكيَّة أو زجاجية صغيرة وهي مقو جيد للجسم ولجميع الأعمار. 

أما الوصفات الغريبة التي ممكن استخدامها في تحضير الأرواح أو جلب الجان أو السحر، فأننا لا نتعامل معها، فكل ما نعرضه في المحل هو بترخيص رسمي، وأن أغلب ما موجود هو من مواد غذائية كمنكهات أو مواد عطرية أو فواكه مجففة.

وتجولنا وزرنا أكثر من عطار والذين ساعدونا في الوصول إلى من "يبيع بخورا يستخدم في السحر" وكان محله مزدحما بالزبائن، وقد استقبلنا معتذرا عن الزحام الموجود. وبعد مغادرة الجميع تحدثنا عن قدرته في عمل الخلطات السحرية واستخدام البخور في الكثير من الأعمال، ضحك الرجل (ابو مالك) وأخبرنا وهو يبتسم قائلا "أحيانا.. وبفضل من رب العالمين تسبقك، السمعة سواء كانت سيئة أم جيدة، فأنها تكون جالبة للرزق". 

وتابع أن: هوايتي هي جمع البخور، ولديّ خبرة في معرفة قوتها ذات الطاقة الإيجابية، وأن هذا المحل الصغير الذي تراه يعيل ثلاث عائلات، أما كوني أبيع وصفات تستخدم في السحر، فهذا الأمر بكل صراحة لا نقربه، لأن السحر كما يقال "كل من مارسه أو دخل في محرابه" لكنك ترى بنفسك توافد الزبائن علينا هم يأتون من أنحاء الأردن، لاقتناء علاجات تعودوا عليها، وهي مذكورة في كتاب الطب النبوي أو طب الأعشاب الصيني.

ويضيف أن: هذه المواد نمنحها بعد الطلب من دون تدخلنا لفرض أو صرف أي علاج، لكننا وبحكم خبرتنا في هذا الشأن على دراية في أن الروماتيزم وألم المفاصل في حال سؤال الزبون نصف له الكمون لتناوله بعد خلطه مع "لية" الخروف ووضعه بعد تسخينه على القدم أو أماكن الألم.  

أما الذين يعانون من كميات الدهون في الجسم، فنصف لهم الكركم والفلفل الأحمر المطحون مع الزنجبيل وهي مواد نباتية تساعد الجسم على الحرق، وفي حالة الكبد الدهني نعطي أوراق نبتة الهندباء البرية أو حليب الصبار أو الحليب الشوكي مع خل التفاح واللوز المر. 

ويستمر ابو مالك في كلامه وهو يرزم أكياسا بأحجام مختلفة ويضعها بعناية على رفوف خشبية أُعدت لذلك، وهو يقول "نحن لا نتدخل في طلبات الزبائن أو رغباتهم، بل ننصحهم بحكم الخبرة في التداوي بالأعشاب، فهذه المهنة توارثناها وأصبحت كل حياتنا، فمثلا عندما يطلب زبون ما وصفة لعلاج مرض معين ونعلم بأنها ستضره نتدخل حينها، ونقول له إن هذه الوصفة غير صحيحة، وفي حال إصراره نبيعه فبالنهاية أنا صاحب محل أسعى خلف الرزق. أما الذين يطلبون أشياء تستخدم في السحر أو طرد وتحضير الأرواح، فإننا نفهم ذلك مباشرة، لأنها أمور معروفة عند كل العطارين وهي غير متوفرة بسهولة، بل تتم التوصية عليها إن وجدت، كما أنها تباع بأسعار باهظة. 

يشير ابو مالك إلى أن الأغلبية تطلب البخور، ومنها "القسط الهندي" وهو بخور يجلب الطاقة الإيجابية، وكذلك بخور الفحم، ويستخدمان في يوم الجمعة، فرائحته محببة في المنزل. أما البخور الذي يستخدم في السحر، فهو متنوع وعديد ومنها "الطقش المغربي" لأن بلاد المغرب مشهورة بالسحر، وكذلك "بخور دم الغزال" الذي يستخرج من نبات بري ينمو في مناطق معينة، وقد ذكرت ذلك لأخبركم أنه ليس من دم الغزال كما يتوهم البعض، بل من نبات جذوره حمراء اللون، وأوراقه حين تختلط بالماء بعد أن تيبس تعطي لونا أحمر غامق. هذان النوعان يستخدمان في السحر، فضلا عن ناب الجمل، وناب الذئب، ورماد الخفاش، وجلود الحيوانات على اختلافها، بعد تجفيفها مع أنواع مختلفة من عظام الحيوانات. 

ويستطرد قائلا إننا "نعرف ذلك بحكم الخبرة في هذه المهنة، فبمجرد أن يطلب الزبون أي شيء ليس غذائيا أو له تسمية غريبة، أو من أنواع البخور التي ذكرتها نتأكد من أنه يحتاجه في عمل السحر، فننصحه بالابتعاد عن ذلك ولا نمد له يد العون، رغم علمنا أن هناك من يبيع في السر هذه الأشياء، لَكنهم ليسوا من العطارين. 

وقد تسألني لماذا ليسوا من العطارين بينما التهمة لحقت بكم في هذا الشأن؟  فأقول "ربما قبل 30 عاماً كان الأمر ممكناً، وفي السر عند عدد قليل، لكننا الآن في عصر الطب والحقائق العلمية، القلة هم من يعتمدون السحر، بل إنهم نادرون وإن وجدوا، فهم لا يملكون محال عطارة، بل هناك من يدل عليهم في الخفاء، وللأسف هناك من يستغل الدين في هذا الأمر بحجة تقديم الرقية بينما هو يسعى لتحضير الأرواح. "ورغم أن هؤلاء غير موجودين تقريبا، لكن ربما هناك من يعمل في الخفاء"، على حد قوله.

ويشير إلى أنهم لا يتقبلون العطارين بشكل عام، لأننا قضينا على أباطيلهم وضحكهم على الذقون، ولأننا كنا الغربال الذي يفضح دجلهم، "فالناس اليوم يعيشون في مرحلة وعي جيدة بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وعصرنا متنور لا مكان للمشعوذين فيه، أما الذين ينخدعون فهم قلة من الجهلة، إلا أن هذا لا يمنع من وجود السحر الذي هو مُحرم في الديانة الإسلامية"، وفقا لتعبيره.