الجنوب الملوّن في لوحات شفاء هادي

منصة 2024/03/05
...

  صلاح عباس


على مدى قرن من الزمان، صنع الفنانون العراقيون تاريخا فنيا مشرفا، يستحق وضع التقدير بامتياز، إذ إن هذا التاريخ الحافل بالتنوع ومشاركة أجيال تلو أجيال، قدم النوع الفني والإبداعي وأسس مناهج جديدة مسوغة بالرؤى العصريّة المواكبة للمستجدات العالمية. 

ولقد كانت الفنون النسويّة لها قصب السّبق في المشاركة ضمن هذا السفر الكبير، ومنهم شفاء هادي الفنانة التي اهتمت بالمواضيع ذات الطابع العراقيّ المحض، والجنوبي على وجه التحديد، وما يطلق عليه بالرسم العراقيّ، استحال عنوانا مألوفا اشتغل على وفق سياقاته الكثير من الفنانين العراقيين منذ مطلع العقد الخامس من القرن الماضي، وتبلور مشروع تأسيس الجماعات الفنية، وبخاصة جماعة بغداد للفن الحديث 1952 وتماشيا مع الدعوة المقدمة في البيان الثاني لهذه الجماعة والذي قرأه على الجمهور الفنان الراحل جواد سليم و مفاده، الدعوة لتأسيس مشروع فني جديد يهتم بالأصول التاريخيَّة للمدرسة الفنية العراقيّة التي ظهرت ملامحها الواضحة من خلال رسومات الواسطي في القرن الثالث عشر الميلادي. 

ولقد أكدت جماعة بغداد للفن الحديث أهمية الاشتغال بمناطق الفنون المكتسبة للهوية الوطنيَّة والمؤكدة للأصالة الثقافيّة العراقيّة، وبذا وجدت الفنانة شفاء هادي نفسها متعاطفة مع هذا المقترح، الذي يمهد لها بلوغ غاياتها الأبعد، ذلك أن مدن جنوب العراق حافلة بكل تواريخها والقصص المتوارثة عنها تمثل ذاكرة حضاريَّة هائلة، كما تمثل في الفنون والآداب مواضيع مفتوحة تقبل كل انواع الحلول الفنية والتقنية والشكليَّة، وتبدو أمام أنظار الفنانة بأنها مادة فكرية وحسية وتخيلية قابلة للاتساع دائما، ولعل هذا الموضوع ينطوي على قيم فكرية وتأمليّة تسمح بمزاولة مختلف المواد الخام الملموسة ومختلف سبل تطويعها وتوظيفها الادائي والتقني، وهنا وجدت شفاء هادي ضالّتها في مزاولة حريتها المهذبة والمتداخلة مع سياقات الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي درجت عليها العادة في المجتمع العراقيّ عامة والجنوبي بشكل خاص. فكيف كان السبيل لتحقيق ذلك؟

إن المواضيع العراقيَّة، في كل اتجاهاتها المقدمة مسبقا من لدن لفيف من الفنانين العراقيين، تتسم بالبساطة والوضوح، يأتي هذا المنهج التبسيطي متداخلا مع ما هو معمول عليه في آثار الاولين المتمثلة برسومات المنمنمات العربيّة والإسلاميَّة، ومن خلال المتابعة الحثيثة لسبل اشتغال الفنانين العراقيين رسما ونحتا وخزفا، تبين أن لكل فنان طابعة الشخصي المتفرد الذي يميزه عن اقرانه، فنقول هذه اللوحة لفلان وتلك المنحوتة لفلان، وهكذا تكون معرفة البصمة الشخصيّة التي يطبعها الفنان على ملامح عمله الفني البغدادي.

وبالنسبة للفنانة شفاء هادي، فلا بد أن نتوقف عند نقاط الاختلاف بينها وبين الفنانين الآخرين، ممن زاولوا  الفن على أسس المدرسة العراقيّة.

إننا ندرك بأن عناصر الفنّ يمكن اختصارها بثلاث نقاط جوهرية، وهي: المواد الخام الملموسة، ومن ثم الشّكل، وثالثا المضمون، والمواد الخام الملموسة عادة ما تكون مواد صناعية جاهزة، متوافرة في الأسواق دائما. 

وأفضل تعريف لها بأنها تمثل الوسيط الناقل لرؤى واختلاجات الفنانة وأفكارها وتصوراتها وتخيلاتها وما سطح اللوحة الابيض إلا طرفا ثانيا سيتيح لها اجراء الحوارات البغدادية عبر عملية تحليق في السماوات العراقية التي غابت ملامحها  في أغلب المدن في جنوب العراق واندثرت، بل وتلاشت أغلب معالمها المعمارية إذا كانت مبان، وضاعت كل تفاصيلها وحيثياتها إذا كانت تخص طبائع وعادات وطقوس وتقاليد المجتمع الجنوبي وازاء هذا الفقد والضياع فإن الفنانة شفاء هادي تحاول لملمة ما بقي منها وإعادة ترتيبه وانتاجه ليكون صالحا للاستخدام الفني، فهناك قصص وأشعار وأحداث وطرز معمارية وعادات وتقاليد وأغان وموشحات وحرفيون ينشغلون بمختلف الصنائع، كان عالما متسعا، وعلق في الذاكرة المجتمعية، وما أن يتجسد امام بصيرة الفنانة ملمح معين من هذه العوالق الكامنة في الذاكرة، حتى تضع ضمن حساباتها إعادة احياء الملامح المغادرة من الذاكرة الجمعية، ومن ثم تقوم بإعادة ترتيبها وتأهيلها لتكون صالحة للتوظيف الفني.

من هنا تتشكل الصور المعبرة عن الملامح في مناطق الأهوار وقصب البردي والطيور المهاجرة والاسماك وشباك الصيادين، وهكذا تنتقي الفنانة من خزانة تذكرها المفردات والوحدات الصورية الدالة على قيم المواضيع التي تريد تجسيدها وتبدو تلك المفردات والوحدات الصوريّة مثل الطرائد تتقافز في فسحة تأملها وحيز تخيلها حتى تقوم الفنانة بمحاصرتها والقبض عليها، مثل صياد ماهر، ويهمها الاحتفاظ بها كملمح يصلح للاستخدام الفنيو وربما يفضي لمملكة الجمال.  وبذا فإنها ترسمها على سطح اللوحة، لا لكي توثق لحالة تاريخيّة، مرت واندثرت، وانما لتحقيق أبلغ قدر من حريتها الشخصيّة عبر اندماجها مع حرية الاخرين، وبهذا المعنى تكون رسوماتها معبر عنها بالطريقة التفاعلية الصادقة مع الذات ومع ذات العمل أيضا وذوات الاخرين الذين يشاركونها في التلقي الفني. 

إن هادي ترسم بالمواد الخام التقليدية، ولا مجال لتخطي المواد الخام الملموسة، إلا بحدود بعض التوظيفات التقنية، كما أنها حين تزاول الرسم فإنها تحافظ على اتجاه اللوحة وعملية الرسم وفق السياقات المعتادة تبدأ لحظة الظفر بالموضوع ووضع التخطيطات الأولية الكثيرة، بحيث توحي لوحتها الجديدة بأنها مرسومة بمنتهى الصبر والعناية ولا مجال لوجود الزوائد والترهلات التي قد تثقل اللوحة وتؤثر عليها بصريا، لا نقول بأن شفاء هادي بلغت درجة عالية من الكمال الفني، بيد أنها تحرص كثيرا لكي تكون لوحتها آخذة لكفايتها من التنظيم الشّكلي ومصممة وفق قواعد الضبط في فن التصميم، ومهما كانت الانشاءات التصويريّة التي تروم لتجسيدها على سطح اللوحة، فلا بد أن تكون محسوبة الأبعاد، إذا كانت تلوينا أم تخطيطا، وذلك يخضع حتما لموهبة الفنانة شفاء هادي وخزين تجاربها الفنية المتواصلة يوميا وبدون انقطاع، مما اكسبها مهارات احترافية تدل على خبرات كبيرة في مجال تطويع المواد الخام الملموسة وسبل تحريكها على قماشة اللوحة.

لعل ميزان الفهم للأشكال الجديدة وممكنات الابتكار مهدت للفنانة أن تسهم بصناعة أشكال مميزة لا نقول عنها بأنها غير مسبوقة، ولكنها غير مغامرة وغير مشاكسة لذائقة التلقي، وتكون محمولة بطاقة عاطفية مما يجعلها محببة للنفس، لأنها بعيدة عن الصخب والضوضاء والفوضى. 

هكذا تكون الأشكال متوازنة من حيث منهج البحث عن المعاني الكامنة بين التفاصيل والاجزاء المتداخلة في بنى اللوحات، ومن خلال اقتفاء أثر الفنانة وتتبع خطواتها نجدها مشدودة لمواضيع الصيد، وخاصة صيد الأسماك ومواضيع العائلة العراقية في مدن جنوب العراق حيث علاقة أفراد الاسرة مع بعضهم البعض تتسم بالرقة والوداعة، والألفة الاجتماعية التي تلاقي الجميع على الحب والوئام، كما تناولت مواضيع الحرفيين والعازفين ومواضيع الهجرة من الريف إلى المدينة، وكذلك مواضيع العشاق المتيمَّن بالحب، وفقا لما ورد في القصص والأدب البغدادي، كما أننا نجد  نسقا آخر للمواضيع المتضمنة لنصوص شعريَّة يطغى عليه الطابع التخيليّ، المثير  للدهشة.

ومهما تباينت أفكار الفنانة شفاء هادي ومهما تنوعت الرؤى الفكريَّة أو التخيليَّة فأن ثمة آصرة تجمع كل المحتويات والمضامين في بوتقة واحدة، ألا وهي تحقيق وحدة الانسجام الكلية وما يطلق عليها بوحدة الانسجام الموضوعية التي يجهل كيفية تحقيقها الكثير من الفنانين. فما هي وحدة الانسجام الموضوعية؟

بحكم التواصل اليومي الحثيث مع الرسم فإن الفنانة انتبهت لمختلف القيم الفنية والجمالية المتداخلة فيما بينها لتكون في نهاية الامر لوحة جديدة، ولقد منحتها هذه التجارب الفنية فهما معمقا لمغزى الجدوى من الفن، واكتشفت بأن هناك صلات وصل بين المواضيع والانشاءات التصويرية واستثمار طاقة المفردات والوحدات الصوريّة، لا يكون ذلك صحيحا إلا عبر تحقيق نوع من التناغم والانسجام يجمع ما بين المواد الخام الملموسة وسبل انجازها وبين الشّكل الذي يمثل حاضنة مناسبة لمختلف المواضيع التي تطرق أبوابها وتلج في عالمها بقوة حضور فردي مختلف في الأشكال ومتنوع في الرؤى، ولكن كل عناصر اللَّوحة مندمجة ومحققة وحدة الانسجام الكلية بطريقة ساحرة.