أصواتٌ ضاعت أم عمرٌ يضيع ؟

ثقافة 2024/03/06
...

د. عبد العظيم السلطاني

       هنا أو هناك، ضاعت بعض أصوات حروف العربية. ولم يقتصر الضياع على صوت بعينه دون غيره. ففي مصر ضاع صوت حرف (الظاء)، واستعار صوت حرف (الزاي) كي يَقضي به حاجته. وفي العراق ضاع صوت حرف (الضاد)، وظلّ مرسوما على الورق فاستنجد بصوت شقيقه (الظاء)، فصار الحرفان بصوت واحد. وفي البلدان العربية في شمال أفريقيا التبس صوت حرف (الثاء) بصوت حرف (التاء)، حتى صارت لديهم كلمة ثورة تورة... وأمر الضياع والاستبدال ينسحب على بلدان أخرى كالشام واليمن وما سواهما. فهنا ضاع صوت وهناك ضاع صوت آخر.

      وفي البلدان العربية مئات من الأقسام العلمية تُدرّس فيها اللغة العربية وأصواتها، ولو تعلّم طلبة هذه الأقسام نطق أصوات الحروف نطقا صحيحا وعلّموها لطلبتهم مستقبلا، لحلّوا هذا المشكل، كلّه أو جلّه. ولأصبح التحسين ممكنا، وقد يكون الشفاء التام تدريجيا. ولحلّوا بالنطق السليم مشكلة متّصلة به، وأعني بها الأخطاء الإملائية في كتابة كثير من الكلمات. فمن لا ينطق صوت حرف معيّن قد تلتبس عليه كتابته. فهو غير موجود في الواقع، ووجوده في الكتابة ضرب من آثار دارِسه، تدل على شيء كان ثمّ اختفى.
      وفي عالم اليوم، حيث مختبرات الصوت، والأجهزة والتطبيقات الإلكترونية المتنوّعة، موجودة واستخدامها يسير، ومن خلالها يمكن سماع الصوت الحقيقي، للحرف كما كان ينطقه العرب قديما. ولو استعملنا هذه الأجهزة في تعلّم الأصوات لفتحت لنا بابا واسعا وسهلا للتعلّم. ولكانت مُغنية لنا عن الاعتماد على أحاديث طويلة وكتب كثيرة تحدّث فيها علماء العربية على امتداد أكثر من ألف عام.
فهذه أجهزة حديثة دقيقة، لم تكن موجود في زمن أولئك العلماء، ولو كانت متاحة لهم لاستعملوها، ولتوصّلوا إلى نتائج علمية لا تقبل تعدد الآراء والاحتمالات. لأنّ الدرس الصوتي درس علمي. وهو في عصرنا الحديث يعتمد بعضه على معطيات تشريح جهاز النطق، مستعينا بهذا التطور التكنولوجي الهائل في أجهزة التشريح وفي وسائل تصوير منظومة جهاز النطق كلّه، وبعض من علم الصوت يحلّل الصوت ويبيّن خصائصه الدقيقة مستعينا بأجهزة الصوت عالية الدقة، وبعض آخر منه يُعنى بالعلاقة بين الأصوات وجهاز السمع، وهو أيضا على صلة بالأجهزة الحديثة. وكلّ هذا التقسيم والتفريع في علم الصوت إنّما يأتي بفضل المتاحات التكنولوجية الهائلة.  
لذا لم يعد مجديا أن ندرس علم أصوات العربية خارج فضاء عصرنا وتقدّمه التكنولوجي. ولم يعد منهجا علميا سليما ذاك الذي يعتمد على آراء العلماء التي قالوا بها قبل ألف سنة أو يزيد، وهم يصنّفون الأصوات ويحددون مخارجها ويبيّنون خصائصها... فوسيلة علماء العربية في حينها كانت بسيطة محدودة، كأن يصوّت في بئر ليسمع الصوت بوضوح، أو أن يغلق أنفه في أثناء النطق ليتبين أيّ الصوتين أكثر غنّة النون أم الميم!.
     لو اعتمدنا على التكنولوجيا بأجهزتها الحديثة وذكائها الاصطناعي في الدرس؛ لأعدنا تأهيل علاقتنا باللغة العربية وأصواتها، وسيكون معظم بحثنا الآن في جهود علماء العربية في مجال الدرس الصوتي؛ ليس سوى بحث في ((تاريخ)) علم الصوت لدى العرب، وليس بحثا علميا في علم الصوت العربي. وفرق كبير بين هذا وذاك.
      نعم، مهم على المستوى الثقافي أن نعرف مقدار جهود أولئك العلماء القدامى وأن نفخر بها، أيضا. غير أنّ الحقائق العلمية التي نتوخاها اليوم في مجال الدرس الصوتي لا تُستقى منهم، فلدينا من الوسائل ما لم يكن متاحا لهم، ومعرفة اليوم لا تُلتمس في الأمس، وثقافة العيش في الماضي لا تجدي نفعا.
     ومرّة أخرى أقول: نعم، تبقى مساحات معيّنة مما قدّمه القدامى في درسهم مفيدة لدرسنا اليوم، فهُم مثلا، وصفوا لنا بالتفصيل حال المنظومة الصوتية عند نطق صوت هذا الحرف أو ذاك، فوصفوا موضع اللسان في الحلق وحال الشفتين والأسنان، وما سوى ذلك من تفاصيل... لذا يمكن أن ينطقه اليوم متخصّص علمي سليم النطق، بناء على أوصاف العلماء السابقين. وأن يُسجّل هذا النطق السليم ويُحفظ. وهذه هي الآلية الأولى لضبط نطق الأصوات في زماننا. وثمّة آلية أخرى تعاضدها في ضبط نطق الأصوات، وأعني بها ((النطق المتواتر))، فأصوات حروف العربية ما زالت تُنطق كما كانت قديما في بعض البلدان العربية. فمن حسن الحظ أنّ صوتا بعينه من أصوات العربية لم يختف كلّيا في البلدان العربية جملة واحدة. فقد توارث نطقه السليم أهل هذا البلد أو ذاك. فصوت حرف الضاد، مثلا، مازال يُنطق في مصر، وإن هو اختفى في بلدان أخرى. وصوت حرف الظاء ظلّ ينطق في العراق وإن اختفى في بلدان أخرى... وهكذا يكون أمامنا الطريق واضحا في تسجيل أصوات الحروف بنطقها السليم في أجهزة الصوت، مستعينين بتوصيفات علماء العربية القدامى، ومستعينين بواقع نطقها المتواتر في هذا البلد أو ذاك، ممن بقي الصوت قائما سليما لديهم.
     وبهذا تصبح لدينا أصوات العربية كلّها منطوقة بشكل سليم ومسجّلة بشكل علمي. ثمّ تُغذّى بها الأجهزة الصوتية الحديثة، لتقدّم لنا كلّ البيانات الصوتية الخاصة بهذا الصوت أو ذاك، وتصبح سمات الأصوات وخصائصها واضحة للباحثين بدقة. وليس عيبا أن ندرس الأصوات مسجّلةً، فنحن اليوم نتعلّم العربية تعلّما كما نتعلّم الإنجليزية، وليس أمامنا سوى أن ندرس أصوات حروف العربية من خلال مختبر الصوت، كما يدرس المتعلمون لدينا أصوات حروف الإنجليزية في المختبر. وليس صعبا على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أن تهيّئ لدارسي العربية مختبرات للصوت، يبحثون من خلالها، ويتعلّمون فيها نطق أصوات لغتهم نطقا سليما، ويتخصصون بعلم دراسة الأصوات تخصصا علميا حقيقيّا. فأقسام اللغة العربية في جامعاتنا لا تمتلك مختبرات للصوت ولا تُدرِّس من خلالها. وهذه جنبة تقنية ينبغي أن تُعالج. ولِمَ نلوم الباحثين اليوم إن هرعوا إلى منجز الماضي حين لم يجدوا مختبرا علميّا لديهم يبحثون من خلاله؟!. مختبرات البحث الحديث بوابة الارتقاء بالبحث العلمي، وهي في الوقت نفسه تتضمن فرصة رمزيّة لترسيخ ثقافة التركيز في ((الآن وهنا))، وفرصة لغلق باب الاعتماد على الماضي، حين لا تكون فيه فائدة تُرتجى. وفي هذا توفير لعمر يضيع سدىً، ورأفة برقبة أوجعها الالتفات كثيرا.