جودي بيكولت.. الأدب الطبي في السرد والسينما

منصة 2024/03/10
...

  ضحى عبدالرؤوف المل

عندما يصبح الأخ أو الأخت كقطع الغيار لسواه يصبح معنى الأخوة الإنسانيَّة على المحك. فالتطابق المثالي المستنسخ هو إجراء قام به الأهل لإنقاذ ابنتهم كيت {صوفيا فاسيلفيا} التي استطاعت أن تحارب مرضها، وتبقى على قيد الحياة بعد أن تبرّعت لها شقيقتها بالدم ونخاع العظام والخلايا الجذعيَّة. الأخت التي أنجبها الأهل لتكون هي المتبرّعة لأختها. فقد تمَّ أنجابها لوظيفة لم يؤخذ رأيها بها.

فرواية "منقذة أختي" للكاتبة "جودي بيكولت" تطرح موضوعاً حساساً اجتماعياً من حيث المرض والتحرّر من الوصاية الطبيَّة التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها بقوة.
فالطفل المريض في الأسرة قد يتسبب بانتهاك حرية الأولاد الآخرين في الأسرة.
كما هي الحال بالنسبة لأسرة صوفيا وأختها التي رفعت قضية تطالب فيها بالتحرر الطبي لكي لا يفرض أهلها التبرّع لأختها، لنشعر بمعاناتها الكبرى وهي التي تُصاب بوخز الإبر والبقاء في المستشفى مدة من الزمن جرَّاء تبرعها لأختها بالدم أو غير ذلك لأنّها بمثابة الترياق لتبقى أختها على قيد الحياة.
فهل يجب أن نستسلم للقدر ونترك للمرضى قرار رحيلهم عندما تصبح حياتهم العبء الأكبر على الآخرين وعلى أنفسهم عندما يصبح العجز يسبب لهم الوجع النفسي والجسدي؟، وهل دافع الأم لإبقاء ابنتها على قيد الحياة أنساها باقي أفراد الأسرة من الأخوة ومعاناتهم المتعلقة بمرض أختهم وما ينتج عنه من الحزن والدموع والتقيّد، وعدم التحرر الطبي، ليكون كل واحد من الأخوة هو متبرع بكلية أو بدم أو بنخاع عظم وغير ذلك؟، وهل ما تطرحه "جودي بيكولت" في روايتها "منقذة أختي" الصادرة عن دار المدى، هي بمثابة دعوى قضائيَّة لكل فرد من أسرة ارتبط وجوده الوظيفي في الحياة ليكون المتبرع الأفضل في الأسرة؟، وهل حب الأم لابن ما أكثر من ابنها الآخر هو جريمة بحد ذاتها؟، وهل السيناريو الذي كتبه جيريمي ليفين ونيك كاسافيتس نجح في إبراز نقاط القوة لهذه الرواية الاجتماعية الطبيَّة التي تدور عجلتها حول العاطفة المدمّرة أحيانا؟.
لا يمكن أن تقرأ في رواية "منقذة أختي" إلا أن تُصاب بصدمة تجعلك تعيش معاناة أنا التي رفعت دعوة في المحكمة لتحاكم أهلها على تبرعها المستمر لأختها وقوة معاناتها التي تفوق معاناة أختها كيت المريضة.
فالموت لمريض عجز الأطباء عن شفائه ليس بالاستسلام لرحيل شخص ما نحبه، فما يبدأ لا بدَّ أن ينتهي، والإنسان سيرحل مهما طال عمره، وما النفور من الموت بالنسبة للأم إلّا تعلقاً عاطفيَّاً مرتبطاً بمشاعر الأمومة التي لا تحب خسارة أي فرد من أسرتها.
إلّا أنّها قد لا تشعر ما يسبب هذا التعلّق بابن آخر لها "في اللغة الإنكليزية هناك كلمتان يتامى وأرامل، ولكن لا يوجد وصف للوالد الذي يفقد طفلاً"، وهذا يجعلنا نغرق بالميلودراما الروائيّة والدراميّة، وما بين الرواية والفيلم لغات ترتبط ببعضها البعض.
فالتلاعب الدرامي مؤثر جداً عاطفيّاً بين آنا التي ترفع دعوى ضد أهلها كي لا تُجبر على التبرّع لأختها، وبين كيت التي تريد الرحيل كي يتوقف ألمها الجسدي، وترحل عن الحياة التي لم تستطع فيها أن تكون بصحة جيدة.
فالرواية تدفعك للغوص فيها والتأمّل بتفاصيل تجذبك إلى الداخل النفسي لكل فرد فيها لتعيش معهم المعاناة، وتضغط على تعزيز قبول الرحيل أو قبول الموت عندما يكون راحة لمن نحب.
فالمونولوجات الجوهريَّة للشخصيات لعبت دورها في الرواية كما في الفيلم.خاصة لتفاصيل مرض سرطان الغدد الليمفاويَّة وما يترتب عليه من معاناة للأهل أكثر من المريض نفسه.
فالتوافق الوراثي في الأسرة هو لعنة أكثر مما هو نعمة، لأنّه يصبح المريض والمتبرع سواء في العمليات أو الدخول للمعالجة وقد يخسر المتوافق الوراثي مع المريض حريته.
فهل سلطت الضوء "جودي بيكولت" على قيمة التحرر الطبي في العصر الحديث؟، وهل فعلاً يحق للأهل فرض التبرّع من أخ لأخ من دون أخذ موافقة المتوائم وراثيَّاً؟، وهل غضب الأهل من الرفض يجعل المُتبرع في موقف سيئ مدى الحياة؟.
تطرح الرواية قضايا أخلاقيَّة طبيَّة شائكة، كما الفيلم الذي يركز على "كيت وآنا" وما بين الأختين رحلة طبية وقضائيَّة تفتح الذهن على قضايا محقة، وهي وجود أحد أفراد الأسرة المعدل وراثياً.
أو القادر على التبرع ومعاناته الأكثر من المرضية وغير العقلانيَّة من حيث إجباره على التبرع، وتعليق حياته أو بقاء وجوده مرتبطاً بوجود الآخر الذي يتبرع له. فالتعقيد العلاجي يجعل المريض في حالة حساسة لما يتسبب به من ارتباك في محيط الأسرة وهذا يسبب الضرر النفسي قبل الصحي المتعلق بجسده. فالمرض ليس عدواً يجب هزيمته وإنما يجب فهمه وفهم ستراتيجيته وأنه ليس بمثابة معركة مفتوحة على جسد المريض ليرحل أو يبقى بين أفراد أسرته، ويجعلهم في حزن دائم على حالاته ونوباته المرضيَّة.
فهل استفزت جودي بيكولت المشاعر طبيَّاً؟ أم عالجت مسألة التعاطف والرفض والنفور والقبول من المتبرع للمريض؟، أم استطاعت جعلنا نقبل رحيل الأخت المريضة بمرض عضال؟، بل ونتمنى رحيلها لترتاح من ألمها المُسبب لوجع أخوتها؟.
قوة في التمثيل والآداء عند أسرة منقذة أختي، كما هي الحال في السرد الروائي القائم على قوة الحوار والاقناع والتأثر والتأثير. والمنطق والموضوعيَّة التي وضعتنا في دائرتها "جودي بيكولت" متلاعبة بالفطنة الروائيَّة طبيَّاً أو بعلم الوراثة الحديث والاستنساخ الجيني في الأسرة الواحدة وما يرتبط بكل هذا أخلاقياً، وهل عاطفة الأم تجاه أحد الأبناء المريض تصبح أنانيَّة وبشدة لتبقيه على قيد الحياة؟، بهذه الدراما الاجتماعية الصحيَّة النفسيَّة التقطت بيكولت ثغرات الأهل عند مرض أبنائهم أو التمييز بين المريض والمتعافي من الأخوة وتأثير ذلك في النفسيات كافة بدءاً من الولادة ودم الحبل السري الذي هو بمثابة العلاج الوراثي وصولاً إلى التبرع بكلية عندما تكبر. فالطفلة المولودة لوظيفة التبرع لم تعد طفلة تحت وصية الأهل طبياً يفعلون بها ما يشاؤون، لأنها وبكل بساطة يحق لها الحياة بعيداً عن المستشفيات. فهل ما استنكرته الأم من رفع دعوى التحرر الطبي استنكره القارئ للرواية أو المشاهد للفيلم الذي نجح نصاً وتمثيلاً وإخراجاً؟.