المرأة بين الإنجاز وكسر المُعَقّد

منصة 2024/03/11
...

 سميّا صالح

يُقال إنَّ المرأةَ التي تهزُّ المهد بيمينها، تستطيع أن تهزُّ العالم بيسارها. أمّا "سقراط" فكانَ يستمتعُ بعصرِ العنبِ بقدميهِ، ويقدمهُ عصيراً طازجاً لزوجته. وهنا يظهرُ جلياً واضحاً ما يتوجّب علينا في فهم عظمة المرأة لدى "سقراط".

كلُّ شعوب الأرض عبر التّاريخِ من الإغريقِ والرّومِ والهسبانِ والموحّدين والبوذيّين والمانويّين والهندوسِ والسّومريّين والأنكلوسكسون وغيرها، لهم نصيبٌ من النّساءِ اللواتي سطّرنَ البطولةَ بفخرٍ ومجدٍ مثيرٍ للاهتمام. فها هو "أنكيدو" في ملحمةِ "كلكامش" قد فازَ بالحضارةِ والمدنيّة من خلال المرأة.

وهناكَ (أليسارُ) بنتُ الملكِ (متان) التي شيّدت (قرطاجَ) في تونس. وأسطورةُ الأميرةِ (أوروبا) والتي سمّيت القارة الأوربيّة باسمها. والأمثلةُ في هذا المضمارِ عديدةٌ. لكنّنا هنا بصددِ شعوب الفينيق والمرأة السّوريّة، التي لها من التّاريخِ الحافلِ بالمجدِ على مرّ التّاريخِ. فهناك الأميرة (جوليا دومنا) الامبراطورة السّوريّة من مدينةِ حمص التي شكّلت مجلساً ضمّ العلماءَ والأدباءَ والفلاسفة. وهناك الامبراطورة السّوريّة (تيودورا) في زمنِ البيزنط، ولها الدّورُ الكبيرُ في تشريعِ القوانين.

فهذه هي المرأة السّوريّة، التي لا تحتاجُ الى تزكيةٍ من أحدٍ، لأنّها فرضت نفسَها بمجدِها التي صنعَته أمام التّاريخِ والبشريّةِ على مرّ الأزمانِ.

المرأة السّوريّة ما زالت تنجبُ النّصفَ الآخرَ، مع كلِّ الحنانِ والصّبرِ والصّمودِ حتّى هذا اليومَ العصيبَ الذي لم تشهده منذ عقود .

وفي هذا الوقتِ فإنّ النّساءَ السّوريات يخضنَ معركةَ الحياةِ أمامَ ذئبيّةِ الواقعِ الاجتماعي والاقتصادي والقوى المهيمنةِ التي تكالبَت عليها لإزاحتِها الى الهامشِ والأرصفةِ، لتعيشَ العنتَ والعذابَ والجوعَ، لكنّهم فشلوا، وبقيت المرأةُ السّوريّةُ تقول كلمتِها بكلِّ شجاعةٍ وتحدٍ وإصرارٍ على الحياة الحرّة.

لم تكن المرأةُ السّوريّةُ طيلةَ الدّهورِ على رصيفِ التّهميشِ أبداً، حتّى في ظلِّ ضيقِ الحالِ وقلّةِ الحيلةِ. فهي ما تزالُ تصرُّ على الحياةِ الكريمةِ. وحتّى إذا وصلت الى المفهومِ الصّعبِ (لم يبقَ لنا يا ولدي ما نبيعُه في السّوقِ من سلعِ البيت إلّا أنا وأنت). لكنّها لم تبعْ أيًّا من فلذات كبدِها بالرّخيصِ، وهذا مهمٌ لضمانِ الاستقرارِ النفسيِّ والعاطفيِّ للأسرةِ، بل ظلّت تعيشُ مكابِرَةً مناضلةً كأمٍّ أو شاعرةٍ أو روائيّةٍ تقدّمُ ما تجاوزَ على التّقليدِ السّائدِ، ومنهنَّ الروائيّة فاطمة خضّور في كسرِها (التّابو) بعدَ أن شهدت سوريا أفدحَ الجرائمِ في الحربِ الطّائفيّة، وعودةِ النّخاسةِ وبيعِ النساءِ. وكلُّ هذا تناولته الدّراما السّوريّة التي طغت على الدّراما المصريّة. الدراما السّوريّة أكثرُ أبطالِها من النّساء اللواتي يتمتّعنَ بالقدرةِ التّمثيليّة الهائلة، فها هي الممثلة سوزان نجم الدين التي أبدعت في مسلسل (شوق) الذي يعرّي ما حصل من الظّلاميّين في احتقار المرأة في الحرب الطائفيّة. هؤلاء أرادوا أن يعيدوا المرأة السورية الى عصور الظلام لكنّهم فشلوا.

الدراما السورية أعطت لنا مسلسل (شارع شيكاغو) تمثيل سولاف فواخرجي وعباس النوري. ويصور لنا الأحداث بين زمنين، في السّتينيات وحتّى الآن، وكيف تظهر المرأةُ السّوريّة بكامل قوّتها وإصرارها، فكانت المغنّية (ميرامار) تمثيل سولاف فواخرجي، كانت عمياء لكنّها تصر على المضيّ في الفنّ والغناءِ، رغمَ المعارضةِ الشديدةِ من أسرتها، ومن ثمَّ قتلوها من دون وجهِ حقٍّ، في زمن السّتينياتِ من القرنِ المنصرمِ، لكنّ روحَها الحرّةَ المهيافةَ ظلّت لدى حبيبِها عباس النوري.

لقد كانت سوريا بلداً للأحرارِ وقد زارها الثّائرُ العظيمُ (جيفارا) آنذاك. هذه هي سوريا التي بقيت بها المرأةُ السّوريةُ تؤدّي الدّور الفزيولوجي في ديمومةِ البقاءِ والنّسلِ وتحمّلها أعباءَ هذه الوظيفةِ التي منحَها الرّبُّ لها، وهي الوظيفةُ الأعظمُ .

المرأة السّوريّة حتّى الآن لم تنزل الى ضراوةِ السّوقِ والشّارعِ والمضارباتِ التي تقلّلُ من شأنِها، بل ما زالت سيّدةَ البيتِ والمطبخِ والتربيةِ لأطفالها ولذلك أنتج لنا المطبخ السّوري من لذيذِ المشتهى. وكلُّ هذا بفضلِ المرأةِ السّوريّة وفنونها في الطبخ.

والمرأة السّوريّة مشاركةٌ فاعلةٌ في الزّراعةِ، حيثُ نراها في هذا العملِ الشّاقِ فيما يُسمى بالضّيعةِ أو في المزارع السّوريّة الكبيرةِ، وإنتاجها لتغطيةِ السّوقِ المحليّة.

وإذا ما أردنَا الاِنثيال أكثرَ عن المرأةِ بشكلٍ عامٍ، فقد ارتبط اسمها بالجنسِ، بسببِ المفاهيمِ المترسّخةِ عبرَ قرونٍ من العبوديّةِ. وما زال الكثيرون في ظلّ عالمٍ عربيٍّ يقرؤون جسدَ المرأةِ وحسب، لا عقلَها ولا إبداعَها. ولذلك هناك من أرادَ أن يجعلَ من السّوريّاتِ تحتَ مرأى عيونِ رجالٍ خارجَ التاريخِ، وفشلوا أيضا، لأنّ المرأة السّورية ترفضُ أن تكونَ أَمَةً وجاريةً وسلعةً تحتَ غطاءٍ فكريٍّ مقيتٍ. بل إنّها استطاعت صنعَ الفارقِ الثّقافيّ، وبالأخصّ الموظفاتُ الفاعلاتُ أسوةً بالرّجلِ علاوةً على الأديبات. وإنّ أغلبَ البسيطات من بين جدران البيوت استطعنَ أن يقفنَ بوجهِ من يريدُ سقوطهنّ في الهاوية.

وظلّت المرأةُ السّوريةُ بمثابةِ ما قالَه يوماً الفيلسوفُ الوجودي "سارتر": الجسد والعقل وجدته في امرأة واحدة تدعى سيمون دي فوار.

المرأة السّورية لها من الصّالونات الأدبيّة الشّهيرة في القرن المنصرم، ومنها صالون حلقة الزّهراء الذي أسسته السّيدة زهراء في العام 1946. واستقطبَ العدد الكبيرَ من الأدباء والشّعراء. وأمّا اليوم وتحتَ وطأةِ الحربِ، نجدُ صالون الأديبة رياض ندّاف وما يحمله من الجهودِ العظيمةِ في خدمةِ الإبداعِ والوطنِ، في ظلّ الفقدِ المهولِ والكم الهائل من الشّهداء بسبب الحرب الطائفيّة وحرب الرأسماليّة العالميّة والإبادة الجماعيّة وعقدة التفوّق الامبرياليّ البغيضِ، التي جعلت من شعبِ سوريا يركضُ ويركضُ بشكلٍ متواصلٍ لكي ينسحق تحتَ الحشودِ من يريد أن يلتقط أنفاسَه .

وأريدُ أن أشيرَ هنا إلى وجهٍ سوريٍّ معاصر للمرآةِ السّوريّة المجتهدةِ والمثابرةِ ألا وهيَ :نعمى شدود، رئيسةُ مكتبِ الثّقافةِ والإعلامِ والعلاقاتِ الخارجيَّة، التي اهتمت بأنشطة الطّفلِ، فعملت على إصدار مجلة (أطفال طرطوس)، ثمّ تسلمَت مديرةَ تحريرِ مجلةِ الطّليعيّ، حتى أصبحت رئيسةَ تحريرٍ للمجلّةِ.

 وقد أعدّت مجموعة من الأنشطةِ الثّقافيّة والأدبيّة للأطفال منها ملتقى الأدباء الصّغار، وملتقى اللّغاتِ والكثير من الأنشطةِ المنوعة.

رغم كل هذا بقيت الذهنيّة المتّقدة والواعية لدى المرأة السّوريّة، وهذا واضح من خلال إبداعها الأدبي المحليّ، أو في المهرجانات العربيّة. ورغمَ الجوعِ وضعفِ ذاتِ اليد، فالمرأةُ السّورية ما زالت تحتفظ بالعرفِ العربيّ وأثبتت أنّها بمستوى الجمالِ الشّكليّ، يضاف له المستوى السّلوكي والتّصرّف، وقدرتها على النّجاح في العلاقات الاجتماعيّة، وبناء الأسرةِ الكريمةِ، فاليوم نجد الكثير من السّوريّات تزوجنَ من البلد الشّقيق والذي يقارب ُفي تقاليده من الثقافة السّورية ألا وهو العراق. فأثبتت بذلك من أنّها تستطيع أن تخرجَ من دائرةِ الانطواء الذّاتي الى الانفتاح العربي. تصنّف الشّعوب حسب جمالِها ولذلك يقال إنّ أجملَ النّساءِ من الجنسِ الآريّ، والذي يتّصفُ بالبياضِ والطّولِ الفارعِ. واليومَ لا يمكن لنا أن نغضَّ الطّرفَ عن جمالِ المرأة الفينيقيّة السّوريّة، وجاذبيّتِها وعقلِها الرّاسخِ والمدبّرِ على جميع الأصعدةِ الثّقافيّة والاجتماعية والاقتصادية.

سوريا أنجبت من خلال الجمال النّسائيّ نزار قباني ليكونَ أعظمَ شاعرٍ استطاعَ أن يبرزَ مفاتنَ النّساءِ ويضعها على طبقٍ ويقدمها لمن يقرأ ويشعرُ ويحسُّ بالفنيّةِ العاليةِ لنزارَ، وكلُّ هذا بفضلِ الجمالِ والعقلِ الوارفِ لدى المرأةِ السّوريّة. أمّا قصّةُ غسان كنفاني وغادة السمان، فهذه وحدها تعطينا مدى ثورةِ المرأةِ السّورية في الحبّ، وأجملُ ما قاله غسانُ لغادة وأصبح هادراً عبرَ قراطيسِ الحبّ النقيّ (أحبّكِ، والآن أحسّها أكثر من أيّ وقتٍ مضى، الآن أحسُّ هذه الكلمةَ التي وسّخوها حسب 

ما قلتِ لي).

واليوم وبفعل سياسةِ القطبِ الواحدِ، والاستعمارِ العالميّ وعنجهيتِه، سُرقَت الطّاقةُ الكهربائيّةُ والمازوتُ وهما عاملان مهمّان في التّدفئةِ في ليالي البردِ والصّقيعِ واستمرارِ الحياة، لكنّ المرأةَ السّوريّةَ استطاعت أن تدفِّئَ أطفالَها بحنايا ضلوعِها قدرَ مستطاعها وقد أفلحت بذلك، ولو إلى حدٍّ محدودٍ، فالجود من الموجودِ .

وتبقى المرأةُ السّوريّةُ تقضي نصفَ العمرَ وهيَ تنتظرُ لقاءَ من ستحبّهم، والنصفَ الآخرَ في وداعِ الذين أحبّتهم من نياطِ القلبِ مع القوّةِ والشّجاعةِ والرّغبةِ العميقةِ في المبادرةِ والإنجازِ والعملِ وتغذيةِ الأفكارِ والمواظبةِ على كسرِ المعقّد دونَ الذّلّ والخنوعِ كما قالها يوما المغني اللبناني الشّهير مرسيل خليفة: "مرفوعَ الهامةِ أمشي/ منتصبَ القامةَ أمشي/ وأنا أمشي 

وأنا أمشي".