أم كلثوم.. حلاوة العين الثالثة

منصة 2024/03/12
...

  حسين عبد العزيز

«ستبدأ الإنسانيَّة بالتحسّن عندما تأخذ الفن على محمل الجد، كما الفيزياء أو الكيمياء، أو المال» وفقا لقول الموسيقار أرنست ليفي، ونجد أيضا في وصف الشاعر اللبناني أنسي الحاج أنَّ «واحدة من أهميات الفن هي أنّه يذكر الجسد بأنّه مخلوق أصلاً للمتعة لا للكلام». من هنا ننظر إلى الشاعر المميز عبد الوهاب محمد، وكيف أن جملة ما قدمه يطلق عليه «إبداع المتعة» ولا شيء غير المتعة التي هي غاية الفن عبر مراحله وأنواعه.. إذ يجمع الشاعر إبداعاته عنصر المتعة، من أول أغنية قدمها لصديقه محمد فوزي ليلحنها، فكانت من نصيب بليغ حمدي تلك كلمات أغنية «حب ايه» التي شدت أم كلثوم، ومن ثم توالت إبداعات شاعرنا فمن «فكروني وحكم علينا الهوى»، إلى الكثير غيرهما من تلك الأعمال التي لا يمكن أن تخرج من الذاكرة الثقافية المصرية والعربية. وسوف نجد شيئاً مهماً في سيرة عبد الوهاب محمد، وهو أنه كان صاحب آخر كلمات تغنت بها الست، وهي كلمات «حكم علينا الهوى/ نعشق سوا وندوب/ صدق اللى قال الهوى فوق الجبين مكتوب».
ولا يجب أن تنسى أن القدر لم يهمل أم كلثوم لتقدم أغنية “أوقاتي بتحلو” إذ كانت قد اتفقت مع الشيخ سيد مكاوي لكي يلحنها، وبالفعل انتهى من اللحن الذي كان من نصيب الفنانة وردة، لأنَّ المرض اشتدَّ على الست وتمكّن منها، وهنا تُعلن الاستسلام لأمر ليس على هواها على عكس شخصيتها القوية والفريدة . وتعد أغنية “فكروني” وجودية النزعة من دون شك، وفيها ماهية تلك الفلسفة التي خرجت من رحم الحرب العالمية الثانية، فقد اكتشف الإنسان عبثية الحياة التي مآلها إلى هذا الخراب.. فأخذ نفر من فلاسفة  الغرب يأصلون لتلك الفلسفة التي تعمل على إعلاء الماهية على حساب مجتمع.. أقول هذا لأن أغنية “فكروني” فيها حس فلسفي وجودي واضح للغاية، وهذا البعد الفلسفي هو الذي أضاف للأغنية زخم إبداعي عالي جدا . وهنا لا بدَّ من أن اشير إلى الفيلسوف “جان بول سارتر”، عندما قال: “العين الثالثة هي الجحيم”، هي العين هي التي كانت تعبر عنها أم كلثوم في تحفتها المعروفة باسم “فكروني”، أما قول “دانتي” عندما كتب “العين الثالثة هي الجحيم”، سنتذكر هنا كيف بدأت أم كلثوم أغنيتها “كلموني تاني عنك فكروني/ صحوا نار الشوق في قلبي/ وفي عيوني/ رجعولي الماضي/ بنعيمه وبغلاوته / وبحلاوته وبعذابه / وبأساوته”.
وبهذا تستمر الأغنية في تقديم المعاناة التي تلقاها المحب، من جراء تتدخل الناس فيما لا يعنيهم، وهذا التدخل هو معاناتنا جميعاً في الماضي والحاضر والمستقبل . لنقف قليلا مع اللحن الذي وضعه عبد الوهاب، حيث أتهم بأنّه ليس لحنا خالصا للأغنية، وإنما هو كوكتيل جمعه من أغانيه القديمة، ولكن لم تستمر طويلا تلك التهمة أمام النجاح الساحق الذي حققته الأغنية، وقد استعان المخرج صلاح ابو سيف بأحد مقاطعها في فيلم شهير له “حمام الملاطيلي» والذي تشدو فيه الست بقولها «يا حياتي أنا كلي حيره ونار وغيره، وشوقي ليك/ نفسي أهرب من عذابي نفسي أرتاح بين ايديك».
والمحبوب هنا هو الوطن الذي يريد البطل أن يعود اليه، لأنه تعب من الغربة والبعد، يريد أن يجد ذاته وماهيته في هذا الوطن الذي لا بد أن يبقى وطنه مهما حاول البعض زعزعته والتقليل من شأنه.
وبقي أن نذكر أنه في عام 1966 نشرت مجلة الكواكب مقالا مرسلا من قارئ يرمز إلى نفسه بثلاث حروف «م. ع .ع « ينتقد فيها لحن الأغنية، حيث مقدمة اللحن تبدو وكأنها خليط عجيب من موسيقى «أنت الحب» و «هان الود»، وهذا لا غبار عليه، لأن اللحن للملحن ذاته.. لكنه يقتبس جملة موسيقية من أغنية فريد الأطرش «رجعت لك يا حبيبي» التي غنتها اخته اسمهان، ثم نجده قد اقتبس لحنا إيرانيا.. وهكذا يمضى القارئ المحلل في تحليل لحن عبد الوهاب بطريقته التي ما زالت تمتعنا .
في شهر مايو عام 1963 رفعت أم كلثوم دعوة قضائيَّة ضد الموسيقار محمد الموجي، تطالبه بدفع تعويض مالي، ورد المبلغ الذي كان قد تقاضاه كمقدم لثلاثة ألحان وهم “حيرت قلبي، لا يا حبيبي، وللصبر حدود”.. ولأن الموجي كان لديه ارتباطات كثيرة مع مطربين كثر غير أم كلثوم مثل “عبد الحليم، وفايزة، ونجاة” سحبت الست أغنية “حيرت قلبي” وأسندتها الى رياض السنباطي، فينتهي منها، ويقدم للست وتغنيها في عام 1961 .
وقد اشتد الخلاف ما بين أم كلثوم والموجي، ولم يتمكن أحد من حل هذا الخلاف. وذهبت أم كلثوم إلى المحكمة، فقال القاضي للموجي “السيدة ام كلثوم طلبت منك تلحين أغنية للصبر حدود ولم تنتهِ من اللحن في الموعد المحدد؟”. فردَّ الموجي بقوله “خلاص حكم عليَّا بالتلحين”. فقال القاضي “خلاص حكمنا عليك بالتلحين”. فردَّ الموجي “نفذ الحكم”. فسأله القاضي، كيف؟ فردَّ الموجي “افتح رأسي وأخرج اللحن يا سيادة القاضي، أنا مش آلة الكلمات تدخل من هنا فتخرج لحناً في التو واللحظة، دي مشاعر وأحاسيس تحتاج إلى وقت علشان تخرج للنور والست مش مطربة عادية”. فردَّ القاضي “عندك حق سأحفظ القضية وأنت شوفلك حل مع أم كلثوم”.
وما إن خرج الموجي من المحكمة حتى أسرع إلى أم كلثوم في بيتها ليعاتبها على أنّها أدخلته المحكمة.. فما كان من الست إلا أن قالت “ما هو للصبر حدود يا محمد للصبر حدود، فكل ما أدور عليك ألاقيك مشغول مع شادية أو صباح أو عبد الحليم أو فايزة، فحيرت قلبي معاك يا أخي”.
وبهذا انتهت المشكلة، وقد خرجت الأغنية إلى النور في عام 1964. كما والتقى الموجي مع الست في عمل آخر هو “اسأل روحك”.