كرسي الوظيفة

منصة 2024/03/13
...

 حبيب السامر


بعد مرور مدة طويلة على تغيير نظامه اليومي في حياته كمتقاعد من الوظيفة التي أفنى فيها زهرة عمره بين الأضابير العتيقة، والأوراق المكدّسة في درج مفتوح، وبعض كتب على منضدته المتصدّعة في بناية شبه آيلة للسقوط، ظلّ مواكباً على ممارسة برنامجه المعتاد، وتنفيذ بعض واجباته التقليديّة، كان جرس منبه الساعة المنضديَّة الدائريَّة يوقظه من غفوته المتأخّرة صباح كل يوم حين كان على كرسي الوظيفة، لكن وبحكم التطورات والقفزات التقنية، فتح الرجل الستيني عينيه على صوت منبه يرن بالقرب منه بنغمة غريبة، أعجبته الحالة وظل يرقب وقت رنينه الآخر، ظانا بلعبة جديدة يلعبها حفيده، ممسكا بجهاز موبايله بين يديه الغضتين، وبعينين شيطانيتين يتابع حركة شبح يتقافز بين حواجز الكترونية ملونة في لعبة جديدة.

اعتاد هذا الرجل الكتابة بالقلم الرصاص حين تحاصره رغبة في تفريغ ما يعتمر دواخله من أفكار وحكايات أوراقه التي يتفنن بأحجامها وقياساتها، وكما يرغب ليكمل كتابته، تتكدس الأوراق وبعض سجلات قرب مكتبه الصغير، دائماً يقول: هنا روحي تحط على واجهات هذه الأوراق، ربما هي خلاصة حياتي التي أدوّنها كلما سنحت لي الفرصة، سيحين الوقت ليطلع عليها الجميع، هكذا هو دائماً، يجعل العائلة بشوق وتوق لقراءة هذه الأوراق المتكدّسة على الطاولة الخشبيَّة.

يحرص على تنظيم وقته، بعد أن يتابع مع حفيده الأخير لعبته التي تتطاير فيها أشكال متعددة وبشر بهيئات خرافية، تجعل الحفيد يبتسم وهو يضغط بقوة على موجهات موبايله الصغير.

حاول أن يقتني جهازا حديثا بتقنياته المتعددة، وهو يطلب من أولاده أن يشرحوا له هذه التقنية المعقدة كما يعتقد، يضغط على مفتاح لا يعرف إلى أين تقوده هذه الضغطة السريعة من أصابعه المتورمة، والتي تضغط على زرين الكترونيين مرة واحدة فيبتسم الأولاد، في حين يحاصره الخجل، كان يكرر قولته: ما أجمل صوت مفاتيح الآلة الكاتبة القديمة، كنا نطبع كتبا بضربة مسموعة على أزرارها المعدنية يوم كنا في الوظيفة، يا لهذه الأيام التي تحشرنا في تقنيات نجهلها وتجعل أولادنا يضحكون علينا.

كان ينظر إلى أولاده وأحفاده وهم ينعمون بهذه التقنيات التي حُرِم منها، كونها لم تكن متوافرة في زمنه، لكنه يتحسّر على رائحة ورق الرسائل التي يتبادلها مع أهله وأصدقائه وحبيباته وقت كان يحلّق بخيالاته وجنونه الشبابي، كان زمنا جميلا وعفويا، لا مصالح ولا أغراض مبيّتة ومضمرة في قلوب متلوّنة بحسب الفصول، كان كل شيء يسير بطيبة وحب طاهر دون شوائب، وظل يعتمل في داخله ويكرر سؤاله: لماذا كلما يتقدم بنا الزمن نزداد سوءاً، أقصد يزداد الوقت تعقيداً والحياة يتصدرها الألم والخيبات إلّا من بعض مواقف تسر الروح.

قال الابن الأصغر: ستتعلم كل شيء سريعا، ولكن عليك أن تتابع معنا من دون عصبية وانزعاج.

يرد الأب بخجل: جهاز بحجم اليد وهو يحتوي على كل هذه البلوى.

نعم، وبمرور الوقت اتقن الرجل كل ما يخص جهازه التقني الصغير وظل يطبع كل ما يدور في رأسه المصدوع، من دون العودة إلى نصائح وتوجيهات الأولاد أو الأحفاد.