الأم إقبال

منصة 2024/03/14
...

 وليد خالد الزيدي

تنقلب اللحظات وتتثاقل الظروف على أسرة وأبناء الكبير بدر شاكر السياب في مدينته المبجلة البصرة، ووجع يضاف إلى فقدان الأب الشاعر في مستهل حياتهم، لأنهم فقدوا قبل أيام الأم اقبال، ما أشعرهم بحزن جديد وفقدان عميق. فقد كانت تواصل في نفوسهم وترفد ذاكرتهم بإبداع الأب بزمن جميل حينما كان اسم فخم كبير على جسد مريض هزيل، وهي تزور بين الحين والآخر تمثاله، الذي يزين شارع العشار، ويقف بشموخ على الضفة الغربية لشط العرب ليخلد ذكراه التي ما برحت وهي تحكي قصة الإبداع مقرونة بآلام الحرمان والعذاب وقسوة الحياة والاغتراب.
لإقبال الزوجة الوفية قصة من الألم، وهي تزوره كل أسبوع، حينما كانت في ربيع عمرها وقوة جسدها لتزيح عنه الغبار وترفع عنه خيوط العنكبوت، وتغسل هذا الرمز والقامة الأدبية العربية بدموع الفراق.
وإقبال طه عبد الجليل آل السياب ولدت عام 1937، وهي قريبته تزوجت منه عام 1955، ولم يدم زواجهما سوى سنوات تسع بعد أن فجعت ومعها ساحة الأدب العراقي ومنظومة الشعر الحر في الوطن العربي بموت الزوج عام 1964، وعملت بصفة معلمة في مدرستي الثغر والشبل البصريتين حتى عام1980.
 دقق السياب النظر في عالم الحب والجمال، فقد كان حالما وعاش أكثر من قصة حب، لكن لم يكن أمامه سوى الاقتران بابنة عمه التي ذكرها في قصائد عدة: "ولكن.. كل من احببت قبلك ما أحبوني/ ولا عطفوا علي، عشقت سبعا كن أحيانا/ ترف شعورهن علي، تحملني إلى الصين/ احبيني/ لأني كل من أحببت قبلك لم يحبوني".
 رزق السياب من إقبال بابنه غيلان وابنتيه آلاء وغيداء، الذين كانوا بمثابة أنيس لها فترة ترملها المبكرة، وكان عزاؤها الوحيد وجود أبنائها قربها وعنايتها بهم ورعايتها بحزن تمثال الزوج، الذي يعلو المنطقة الأجمل وسط البصرة، كل اسبوع كتاج ذهبي، كأنها تندي أجزاء هذا الرمز بقطرات من ماء نهر بويب الذي أحبه السياب وألهمه الشعر بسن الشباب من حياته.
 كأن لسان حال الأبناء ينعون الوالدين معا الأب الشاعر الذي يقف تمثاله ببهاء في الشارع الأشهر في البصرة والأم، التي كانت تذكرهم برمزية التمثال ومنجز صاحبه، ويبدو أن موت الأم على الأبناء كان وقعه عليهم كبيرا، كما حكت لهم كيف حرم والدهم من أمه، وعاش حياة فقدانها وتيتمه منذ نعومة أظفاره، حيث كان شديد الالتصاق بها، ولم يتمكن الزمن من أن ينسيه ما حدث. وقد وقع كالصاعقة على وجدانه كأول منغصات حياته وبقي يتذكرها بالم وحسرة ويبكيها، حتى وهو على فراش الموت: "أماه ليتك ترجعين/ شبحا، وكيف اخاف منه، وما امحت رغم السنين/ قسمات وجهك من خيالي/ أين أنت؟ أتسمعين/ صرخات قلبي وهو يذبحه الحنين إلى العراق".
لم يتبق من ذاكرة إقبال والسياب سوى قصص من الوفاء وأشعار للحب، وتمثال يتيم هو الآخر يحكي حياة الشاعر، الذي أثرى خزائن الأدب العربي المعاصر بمنجز كبير والزوجة التربوية إقبال التي نهل منها جيل من الطلاب العلم والمعرفة على مدى عقود من الزمن.