تلاوة القرآن بالطريقة العراقية.. مدرسةُ الشجن والحزن السرمديّ

ريبورتاج 2024/03/17
...

   رحيم رزاق الجبوري

من المتعارف أن الحزن جزء متأصل من الشخصية العراقية منذ آلاف السنين، بسبب ظروفه وتركيبته وبيئته. حيث ألقى هذا الحزن بظلاله على جميع ثقافاته المتنوعة، ولا سيما طريقة أدائه لتلاوة القرآن الكريم التي يتفرّد بها، ويصعب على غيره إجادتها لصعوبتها البالغة بسبب اعتمادها على المقام العراقي بأصوله وفروعه؛ فأصبح هويتها وصورتها وتراثها الدائم. كما أنها تتطلب حنجرة وصوتا عريضا ذي مساحة كبيرة في الجواب والقرار وغيره، وهذا كله لا تجده إلا عند العراقيين؛ ولهذا فإن اللهجة والغناء والقراءة العراقية تحتاج لهذه المزايا الخاصة والفريدة؛ بعكس القراءة المصرية التي تعتمد بشكل كبير على السلم الموسيقي.

أعظم العبادات

يقول د. فراس محمود (أستاذ فقه الشريعة الإسلامية وأصولها) إلى: "إن قراءة القرآن الكريم من أعظم العبادات وأجلّ القربات؛ والصلاة لا تصح من دون القرآن الكريم؛ ومنها تأتي أهمية القراءة للقرآن الكريم؛ لذلك يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس منَّا مَن لمْ يتغَنَّ بالقرآن). 

فلذلك اهتم المسلمون بقراءة القرآن الكريم منذ العصور الأولى؛ وفي العراق بدأ الاهتمام بالقراءة منذ العصر العباسي؛ حيث أصبحت بغداد قبلة لكل العلوم والعلماء ومنها قراءة القرآن الكريم.

التي تكمن أهميتها بضبط أصول التلاوة وأحكام التجويد؛ ووجوب دراستهما والإحاطة بهما بشكل تام.

وكذلك من حيث النغم. ولهذا امتازت المدرسة العراقية بدراسة المقام العراقي؛ ووضع ضوابط للمقامات تتم دراستها لكل من يريد نيل إجازة التلاوة".


منبع القرّاء

محمد الحمّودي (ماجستير في علوم القرآن ومجاز في القراءات القرآنية)، يشير بالقول: "لقد كان لأهل العراق اهتمام كبير بقراءة القرآن الكريم منذ الصدر الأول للإسلام عندما كانت بغداد عاصمة الدولة الإسلامية، وشاعت فيها مدارس مختلفة، ولا سيما أن أغلب القرّاء العشرة كانوا من العراق كالإمام عاصم والكسائي، وحمزة الزيات، وأبي عمرو، والدوري وغيرهم، وقد نشأت في ذلك مدارس عدة أشهرها المدرسة البغدادية والموصلية ولكل منهما صفات خاصة تأثرت بالمحيط الاجتماعي والجغرافي لكليهما. 

وقد غَلِبَ الطابع الحزين على القراءة فكانت سمة خاصة ومميزة لهذه المدرسة، إذ عُرِفَتِ التلاوة العراقية دائما بالشجن والحزن. 

كما تأثرت المدارس العراقية للقراءة باختلافات المقامات العراقية الأخرى، فاشتهرت المدرسة الموصلية لمؤسسها الملا عثمان الموصلي بمقام البيّات وتأثّرها بالنغم التركي، فيما استحوذت المدرسة البغدادية على مقام الصبا".


المدرسة البغداديَّة

ويضيف: "إذا أردنا الكلام عن الطريقة العراقية في قراءة القرآن فلا بدَّ من الإشارة إلى الحافظ خليل إسماعيل الذي يعتبر عميد المدرسة البغدادية. 

والذي اتقن استخدام المقامات في قراءة القرآن حتى إنه قرأ القرآن بمقامات عديدة لم يقرأها قبله أحد. 

وقد أنتجت هذه المدارس قرّاء عراقيين كثر، أجادوا القراءة بالنمط العراقي على خطى من سبقهم كأمثال القارئ وليد الأعظمي وعلاء الدين القيسي وآخرين. 

ورغم الجهود التي بُذِلَتْ في تأسيس القراءة العراقية الحديثة؛ لكنها بقيت حبيسة العراق ولم تصدّر لغيره من البلاد الإسلامية بخلاف القراءة المصرية والحجازية؟

وقد يرجع ذلك إلى صعوبة هذه الطريقة على غير أهل العراق، ولهذا لا تجد أحدا يستطيع تقليد المدرسة العراقية بأسلوبها وطريقتها الفريدة.

وممّا يؤسف إليه اليوم ما نلاحظه من ابتعاد كثير من القرّاء الشباب -على الرغم من وجود خامات صوتية عذبة- عن هذه الطريقة إلى غيرها سواء على المستوى التعليمي أو المهني وخصوصا أئمّة المساجد، وقد يعزى ذلك إلى افتقار المساجد والمؤسسات التعليمية المختصة إلى أصحاب الاختصاص، فضلا عن الإهمال وعدم الاهتمام والحرص على هوية القراءة العراقية ممّا ينذر بعواقب لا تحمد، وطمس للتراث الوطني".


السهل الممتنع

ويروي القارئ منتظر عبد الستار (27 عاما)، الذي يمارس شرف تلاوة القرآن الكريم منذ 16 عاما، تجربته في هذا المضمار، قائلا: "أنا كقارئ اعتدت على القراءة بالطريقة المصرية التي ألفناها بحكم أننا نشأنا على سماع أبرز قرّائها.

وسمعت بأن الطريقة العراقية تمتاز بالحزن وتُتلى بمقامات الصبا والحجاز وغيرهما.

إلى أن تبيّن لي حينما بدأت أستمع للقارئ حيدر جلوخان، وعلمت -بعد حين- أن هذه الطريقة فيها 50 مقاما وليس كلها حزن كما يقال عنها.

لكنها تمتاز بأسلوب صعب جدا. وحتى القرّاء المصريين حينما يُسألون عنها يتمنون بأن يمتلكوا حنجرة عراقية حتى يستطيعوا أداءها.

فهي صعبة على باقي الدول لأنها تحتاج إلى ترجيع بالصوت وإتقان من قبل القارئ. 

ما بالنسبة للعراقيين فهي كالسهل الممتنع. 

وأشعر أن الطريقة العراقية تحسّس السامع بالآية، وتأخذه للخشوع والتأثّر وتسحبه للبكاء في كل المقامات التي تتم فيها.

أما الطريقة المصرية فتستطيع التأثير والخشوع بالسامع لكن بمقامات محدّدة كالصبا والحجاز والكرد أما بقية المقامات فلا تحتوي على هذه الخاصية".


طقوسٌ دينيَّة

بدوره يشير القارئ والناشط القرآني علي حسين الخيّاط (حكم وقف وابتداء وطني، ومهتم بعلم الصوت والنغم والمقام العراقي) إلى: "إن كل الشعوب لها طريقتها الخاصة في استخدام الأنغام لأداء طقوسها الدينية. 

وأن العرب سابقا كانت تستخدم النغم في أدعيتها وتسبيحها خلال طوافها بأصنامها، ‏مما يدل أن لها تاريخا جميلا ومتراكما بالأنغام. 

لهذا جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (اقرأوا القرآن بلحون العرب). 

ممّا يؤكّد ضرورة استخدام الأنغام واللحون العربية في التلاوة؛ التي لها تأثير على أذن السامع، وكذلك استخدام ذلك في الأذان وتهليلات الحجيج والأدعية". 

نشأة

ويضيف: "تنقل إحدى الروايات عن طريق إلقاء شعر المراثي عندما طلب الإمام الصادق (ع) من الشاعر العراقي أبو هارون المكفوف رثاء جدّه الحسين (ع) بطريقة أهل العراق لما تحمل هذه الطريقة من حزن وشجن.

وهي مصداق لما جاء في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (اقرؤوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا). 

ممّا يعطي للمتلقي أن أصول هذه الأنغام صدرت في العصرين الأموي والعباسي حتى وصلت هذه الهوية إلى عصرنا الحالي وتناقلتها الأجيال. 

ويشير التاريخ الحديث إلى أن الشيخ الملا عثمان الموصلي (1854 - 1923) كان نابغة في الأنغام العراقية ونقل أصول هذه الطريقة إلى بلاد مصر وتم توظيفها في أداء التلاوات المصرية".


بستان الأنغام

ويكمل: "تكمن ذروة ازدهار هذه الطريقة إلى شخصية عبقرية تعتبر مدرسة متكاملة يُحتفى بها ألا وهو بستان الأنغام المرحوم الحافظ خليل إسماعيل الذي غيّر موازين وأساليب هذه الطريقة وجعلها تبدو بصورة أروع وأبهى حيث كان الأسلوب المتّبع هو الطريقة الملّائية أي أنه كل شيخ يصدّر إلى تلاميذه طريقته التي غالبا ما تكون فردية متقوقعة على أسلوب محدد، وما زالت هذه الطريقة متواجدة وهناك الكثير من الأسماء المشهورة الذين برعوا بإدائها، إلا أن أسلوب إسماعيل جمع الهوية العراقية المتكاملة من موروث بغدادي وجنوبي وتركي وتركماني وموروث المناطق الغربية، بل تعدى ذلك إلى إدخال الأنغام الشرقية والعربية في الطريقة العراقية التي تستحق أن نطلق عليها (الطريقة العراقية الأصيلة) لما لها من أصالة ورصانة وإبداع". 


عقلية ذكيَّة

‏ويتابع: "يرى المهتمون بهذه الطريقة إن صعوبتها تكمن في جمع الأنغام التي تتعدى لأكثر من 88 نغما من مقامات وأطوار وقطع وأوصال لتتلاءم مع النصوص القرآنية التي غالبا ما تحتاج إلى حنجرة قوية وعقلية ذكية لتبدع في هذا الكم النغمي العراقي الأصيل الذي يحمل جمال تضاريس بلدنا العريق حيث يأخذك في رحلة دينية مذهلة. 

وتتميز عن الطريقة المصرية بحزنها الشديد الذي ينساب إلى القلب قبل الآذان وبدون استئذان. 

كما أنها تمتاز بكثرة ألوانها النغمية مقارنة بالمصرية التي تميل إلى التلوين الصوتي والأنغام التطريبية، ولا تقارن هذه الطريقة مع الطريقة الحجازية وذلك لبعد المقارنة من ناحية الكم النغمي 

والصوتي". ‏


ضعف التسويق

ويؤكّد: "أما أسباب عدم ترويجها؛ هو نابع من عدم وجود إعلام قوي ومؤثّر لنقلها إلى العالم الإسلامي. 

ولذلك لم نستمع سوى تلاوة الحافظ خليل إسماعيل قد قُرِأَتْ سابقا في المسجد الأقصى المبارك مقارنة مع الإعلام المصري الذي سوّق للطريقة المصرية وأصبحت المعتمدة في العالم الإسلامي وخصوصا في المسابقات

القرآنية. 

إضافة إلى ذلك إننا لم نسمع بأن هناك قارئا للتلاوة العراقية فاز في المسابقات الدولية بالمراكز المتقدمة سوى قارئ العتبة العلوية المقدسة السيد هاني الموسوي والذي حاز على المركز الثاني في مسابقة بتركيا قبل أعوام.‏ 

ولعل هنالك سببا مهما هو عدم الترويج الصحيح للتلاوة ومنها عدم الالتزام ببعض موارد أحكام التلاوة ووضوح التفخيم والاستعلاء في الحروف وكثرة السكات أثناء التلاوة.

 بينما نجد طاقات شبابية جديدة تروّج للتلاوة العراقية بشكل مقبول ورائع ومهذّب". 


تحجيم

‏ويتطرق الخياط، إلى التضييق الذي مارسه النظام السابق في المحافظات الجنوبية، وأدّى إلى ابتعاد الشبّان عن ارتياد المساجد وعدم تلقّي أي دروس أو محاضرات تدريبية وتثقيفية في مجال تلاوة القرآن، خاتما حديثه بالقول: "بعد سقوط النظام السابق؛ انتعشت الثقافة القرآنية بفضل ثلة طيّبة من القرآنيين المهاجرين في البلاد المجاورة الذين نقلوا لنا تجربتهم الناجحة والتي كانت بالطريقة المصرية. 

وللإنصاف قامت مدرسة الإمام الرضا (ع) القرآنية في مدينة بغداد بالترويج الصحيح للهوية العراقية في عالم التلاوة عن طريق فتح دورات تخصصية -لكلا الجنسين- باستضافة أساتذة مختصين في هذا الشأن ولأكثر من ست سنوات تخرج من هذه الدورات قرّاء من جميع ربوع عراقنا الحبيب؛ لتزيد من سحر وجمال هذه الطريقة الأصيلة، وهي تسمو وتنتشر في جميع أنحاء العالم 

الإسلامي".