الولايات المتحدة توسّع بصمتها في الشرق الأوسط

قضايا عربية ودولية 2024/03/26
...

 ستيف هندركس وسوزانا جورج وميسي رايان
 ترجمة: أنيس الصفار        

ارتفع المقدم «جيريمي أندرسون» بمقدمة طائرته طراز «سي 130» التابعة للقوة الجوية الأميركية، وراح يلقي من عنبر الشحن 16 منصة نقالة محملة بالمساعدات الغذائية الطارئة إلى السماء فوق شمال غزة.
على مبعدة آلاف الأميال عن ذلك وبفاصل دقائق، قبالة الساحل اليمني، هدرت المقاتلات النفاثة والمروحيات الهجومية الأميركية، وهي تقلع من على سطح حاملة الطائرات الأميركية “دوايت آيزنهاور” لكي تشتبك مع المقاتلين الحوثيين الذين لا يفتؤون يهاجمون السفن في منطقة البحر الأحمر وما حولها.
في كلا الموقعين يقول عناصر الخدمة الأميركيون إن مهمتهم لم تكن متوقعة، وإنها قد تغيرت مع تحرك البيت الأبيض بسرعة لاحتواء تداعيات أوسع نطاقاً للحرب بين إسرائيل وغزة. بيد أنهم الآن، إلى جانب طاقم الجيش الأميركي الآتي في الطريق إلى غزة لبناء رصيف عائم، غدوا جزءاً ثابتاً من البصمة العسكرية المتوسعة في الشرق الأوسط. هذه المنطقة التي كان الرئيس بايدن يمنّي نفسه بتخفيف التركيز عليها.. والتي كان التدخل الأميركي فيها من الأصل مدمراً وباهظاً في أغلب الأحيان.
قال أندرسون بعد عودته إلى المطار الأردني الذي كان ينطلق منه بالحمولات التي يلقيها فوق غزة: “لم يكن هذا ضمن توقعاتي بالتأكيد. فآخر ما كان يخطر ببالنا هو أن نجد أنفسنا بعد السابع من تشرين الأول في هذا المكان نقدم المساعدة لأناس يعيشون أزمة حقيقية”.

هجمات الحوثيين
أما في البحر الأحمر، حيث يهاجم المقاتلون الحوثيون اليمنيون السفن احتجاجاً على الحرب التي تشنها إسرائيل، فيقول الأدميرال “مارك ميغيز”، إن مجموعة سفنه الضاربة بقيادة حاملة الطائرات آيزنهاور، كان مقرراً لها أصلاً أن تجتاز منطقة الشرق الأوسط وتستضيف كبار الشخصيات الأجنبية والقيام بمناورات عسكرية.
يقول ميغيز، قائد المجموعة الضاربة، إنهم قبل الحرب كانوا في طريقهم لزيارة ميناء في البحرين، لأنهم كانوا سيستضيفون ملكاً، وكان جدولهم مشحوناً بالعمل. بدلاً من ذلك ها هي قوتهم تعمل على اعتراض هجمات الحوثيين بالطائرات المسيرة والصوايخ البالستية، في واحد من أشد الممرات المائية الستراتيجية أهمية في العالم، علاوة على توجيه ضربات إلى الجماعة في العمق داخل الأراضي اليمنية.
يضيف ميغيز قائلاً: “نحن باقون هنا على قدر ما تقتضي الحاجة”.

درس الشرق الأوسط
الحرب في غزة والأزمة الإنسانية المتفاقمة هناك علمتا بايدن درساً سبق أن علمه رؤساء عديدون من قبله، وهو: أن الخروج من الشرق الأوسط ليس مهمة سهلة.
فبعد قيامها بخفض وتيرة ما أسمته “الحروب الأبدية” في العراق وأفغانستان، أرادت الإدارة الأميركية أن تنقل مرتكزات سياستها الخارجية صوب التصدي للعدوان الروسي والنزعة التوسعية الصينية. إلا أن صباح السابع من تشرين الأول، وهو اليوم الذي قتل فيه مقاتلو حركة حماس نحو 1200 إسرائيلي، قلب الأمور رأساً على عقب.
فاليوم تجد البنتاغون نفسها تغوص أكثر فأكثر في خضم أشد صراعات المنطقة استعصاء وتعقيداً، وهو دور مستمر بالتوسع يعكس قوة دعم بايدن لإسرائيل، وشعوره المتعاظم بالإحباط حيال الكيفية التي سيدير بها الحرب التي تعقبها.

أزمة غزة
قتل في غزة منذ بداية الحرب أكثر من 31 ألف شخص، وفقاً لوزارة الصحة في غزة، ومع استمرار إسرائيل برفض دعوات الإدارة الأميركية للسماح بعبور مزيد من المساعدات إلى داخل القطاع، فإن المؤشرات على قرب انتهاء المهمات العسكرية الأميركية أمست قليلة.
في وقت سابق من هذا الشهر، أوفد الجيش الأميركي عدداً من السفن بينها “أس بي 4 جيمس أي لوكس” و”المونتيري” و”ماتامورو” و”ولسون وارف” من فرجينيا متجهة إلى البحر المتوسط، كجزء من جهد تسليم ما يصل إلى مليوني وجبة طعام يومياً لغزة عن طريق البحر.
يقول المسؤولون الأميركيون، إن أفراد كوادرهم سوف يساعدون في إقامة رصيف عائم وجسر يسهلان حركة شحنات المساعدة إلى داخل غزة من دون الحاجة لإنزال قوات على الأرض.
يقول “هارون ديفد ميلر”، الزميل الأقدم في معهد كارنيغي للسلام الدولي والدبلوماسي الأميركي السابق الذي تركز عمله في منطقة الشرق الأوسط، معلقاً على وضع إدارة بايدن: “لكأنك في فندق يمكنك فيه توقيع سجل الخروج  متى أردت، ولكنك لن تستطيع المغادرة أبداً.”
بدأت البنتاغون إرسال معداتها العسكرية وعديد جنودها إلى المنطقة عقب أحداث 7 تشرين الأول تقريباً. كان الهدف في بادئ الأمر هو ردع حزب الله اللبناني، أقوى حلفاء إيران، عن فتح جبهة جديدة ضد إسرائيل، وفي الوقت نفسه لدرء حرب أوسع نطاقاً.
حينها تطلب الأمر اتخاذ خطوة غير اعتيادية تمثلت بنشر حاملتي طائرات في منطقة الشرق الأوسط، هما الحاملة آيزنهاور والحاملة “يو أس أس جيرالد فورد”. نشرت الولايات المتحدة أيضاً سفناً من مجموعة “باتان البرمائية” قبالة الساحل الإسرائيلي، كما أعلنت أنها سترسل سرباً من مقاتلات “أف 16” مع أنظمة دفاع جوي إضافية إلى المنطقة.
هذه التحركات مثلت تصعيداً خفيفاً للنشاط العسكري الأميركي في المنطقة، ولكنها تبقى بعيدة كل البعد عن الوطأة الأثقل التي أقدمت عليها البنتاغون إبان ذروة حروبها ضد التمرد، التي أعقبت 11 / 9 عندما تم إرسال أكثر من 160 ألف جندي إلى العراق ونحو 100 ألف إلى أفغانستان.

انتشار القواعد
اليوم، إلى جانب القواعد الأوسع حجماً والأقدم تواجداً في قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة، لدى الولايات المتحدة نحو 4 آلاف جندي في الأردن و2500 جندي في العراق و900 جندي في سوريا. كذلك فإن وتيرة العمليات لا تزال خفيفة نسبياً حتى الآن، إذ لم تشهد زيادة ملحوظة في التواجد العسكري على الأرض مقارنة بما كان قبل أحداث 7 تشرين الأول.
يصر البيت الأبيض على أن نشاط البنتاغون عند حواشي الحرب لن يتطور إلى دور قتالي فعلي. رغم ذلك لا يمكن إنكار الخطر الذي يتهدد العناصر والأفراد على متن الطائرات والسفن الحربية الأميركية في مسرح عمليات مضطرب كالشرق الأوسط.
أعاد الصراع في غزة إذكاء الحملة التي كان دخانها يتصاعد منذ أمد في العراق وسوريا، بسبب نشاط الجماعات المؤيدة لإيران والساعية إلى إلحاق الأذى بالقوات الأميركية. شنت تلك الجماعات أكثر من 170 هجوماً على الأميركيين منذ 7 تشرين الأول. وفي 28 كانون الثاني أسفر هجوم بطائرة مسيرة عن مقتل ثلاثة عناصر أميركيين في منطقة تسمى “البرج 22”، وهي قاعدة إسناد صغيرة داخل الأردن.
ورداً على هذا شنت البنتاغون هجوماً واسعاً.

هجمات اليمن
أما في البحر الأحمر وحول شبه الجزيرة العربية، فإن الولايات المتحدة ومعها دول أخرى، تناضل من أجل تحقيق وقف كامل لهجمات الحوثيين، رغم شهرين من الغارات والضربات التي تنهال بها على مواقع الصواريخ والبنى التحتية التابعة للجماعة.
منذ شهر تشرين الأول هاجم اليمنيون سفناً تجارية وأخرى تابعة للبحرية الأميركية أكثر من 60 مرة، ما أدى إلى تحويل مسار الملاحة العالمية إلى وجهات أخرى وارتفاع تكاليف الشحن، إلى جانب إغراق سفينة بضائع اسمها “روبيمار”. كانت للحوثيين أيضاً اشتباكات مباشرة مع القوات الأميركية، بما في ذلك إطلاق النار على مروحيات تابعة للبحرية كانت تستجيب لنداءات استغاثة أطلقتها إحدى السفن التجارية.
في الأسبوع الماضي قال ميغيز وقادة آخرون على متن الحاملة آيزنهاور، إن نشاطات الحوثيين قد خفّت خلال الأسابيع الأخيرة، وإن الجماعة المذكورة قد فقدت شيئاً من حرية حركتها وأصبحت هجماتها أقل جرأة.
رغم ذلك يصف ميغيز وتيرة العمليات بأنها “قرع طبول لا يهدأ”، على حد تعبيره.

شحنات المساعدات
حتى إسقاط شحنات المساعدات لا يخلو من مخاطر، كما يقول أندرسون مستشهداً بالمجال الجوي المزدحم فوق غزة، حيث تقوم الولايات المتحدة ومصر والأردن وبلجيكا وهولندا بإيصال الإمدادات عبر نفس المطار.
يقول أندرسون: “أحياناً تكون هناك تسع طائرات أو عشر ضمن مجال محصور وضيق للغاية، لكن المراقبين الجويين العسكريين في إسرائيل يقومون بعملهم جيداً.”
من جانبه يقول الجيش الإسرائيلي، إنه يتعاون مع حركة الطيران التي توصل المساعدات إلى غزة كي لا يحدث تعارض في الحركة بينها وبين طائراته المقاتلة والمروحية. كما تقول الوكالة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن تنسيق المساعدات داخل غزة، إنها تشارك في تفتيش الرزم قبل إلقائها، لكنها لم تحدد المكان الذي تجرى فيه عملية التفتيش.
ردود الفعل داخل إسرائيل كانت متضاربة إزاء الدور الجديد الذي يقوم به الجيش الأميركي في غزة.
في السر لا يخفي بعض المسؤولين الإسرائيليين ترحيبهم بالمبادرة الأميركية، في خضم بحثهم عن بدائل للمساعدات التي تقدمها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين “أونروا”، التي تتهمها إسرائيل بالتواطؤ مع حماس، في حين يزعم المتشددون أن معظم المساعدات التي تدخل غزة تستولي عليها الحركة المسلحة، ما يمكنها من مواصلة القتال.
تقوم الطائرات الأميركية بإلقاء الإمدادات حرفياً فوق رؤوس المحتجين الذين يحاولون منع شاحنات المساعدات من دخول المنطقة. بيد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” يقابل إلقاء شحنات المساعدات بالصمت.
يقول مصدر إسرائيلي وثيق الاطلاع على المناقشات الدائرة في مكتب رئيس الوزراء، إن نتانياهو يخطو خطواته بحذر متفادياً إغضاب قاعدته المحافظة أو استفزاز وزراء الجناح اليميني.
يقول المصدر: “يعلم نتانياهو أن أي مساعدات تدخل إلى غزة ستكون مثار إشكال لدى الرأي العام، وهذا هو الجمهور الذي يحتاج إليه.”
يرى بعض الإسرائيليين أن النشاطات العسكرية الأميركية المتعلقة بالصراع، إنما تمثل إفرازات جانبية لمشاعر الإحباط التي يشعر بها بايدن إزاء تخلف إسرائيل عن تخفيف الأزمة الإنسانية. ويخشى هؤلاء أنهم ربما أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من فرض واشنطن قيوداً على المساعدات العسكرية لإسرائيل.
يقول “تشاك فرايلخ”، النائب السابق لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا: “إنها صفعة على وجه نتانياهو شخصياً. هنا يدور الحليف الأكبر متجاوزاً حليفه الأصغر لينفذ ما يريد تنفيذه، وما لم يغير نتانياهو مساره فإن الضرر الذي سيقع قد يكون شديداً.”    

*  صحيفة واشنطن بوست