فكاهة خفيفة ساخنة

منصة 2024/03/28
...

 رضا المحمداوي

في التجربة الفنيّة التي خاضتها الدراما العراقيّة طوال عقود طويلة من عمرها الفني، ما زلنا نقول ونعيد القول مراراً وتكراراً، بأن الكوميديا أصبحت لدينا ولأسباب عديدة فناً صعباً، ولم نتمكن من إثبات جدارتنا في تناولها ومعالجتنا لموضوعاتها، ولم ننجح كذلك في إنتاج نماذج درامية فنيّة يمكن أن نقيس عليها أو نتخذها مثالا يقتدى بها، باستثناء الحلقات القديمة لمسلسل «تحت موسى الحلاق» للفنانين القديرين سليم البصري وحمودي الحارثي، والتي أنتجت في بداية العقد الستيني من القرن المنصرم، وتعد من أقدم المواد التلفزيونية الأرشيفية المحفوظة بعد تأسيس تلفزيون بغداد عام 1956.
وإذا كنا قد نجحنا في السنوات الأخيرة في إنتاج وتقديم الميلودراما العراقية الجديدة والتي وصفتُها ذات مرة بأنها هجينة وعبارة عن خليط من الميلودراما المصرية والهندية مع لمسات تركية، فإننا بالمقابل فشلنا تماماً في صناعة أو إنتاج كوميديا عراقية ناضجة، وملتزمة، وجادة في طرح موضوعاتها ومعالجتها،أو صاحبة قضية أو موقف أو فكرة سديدة.
ولذلك ومن أجل ملء الفراغ وإشباع الحاجة الفنية المتزايدة لهذا النوع من الدراما التي تحتاجها شاشة التلفزيون وفي الموسم الرمضاني على وجه الخصوص، يلجأ صناع الدراما لدينا إلى تقديم أعمال درامية «فكاهية» هزلية أو «دراما خفيفة»، ولا أُسميها «كوميدية» بالمعنى الأكاديمي المعروف والمقابل
«للتراجيديا».
وتقوم هذه الدراما الفكاهية – الخفيفة على كتابة ما يعرف «بالسكيتشات» الدرامية وهي عبارة عن فقرات متعددة ومنفصلة عن بعضها البعض وبطابع متنوع ويتم تصويرها داخلياً في الأستوديو وبديكور بسيط مع عدد محدود من الممثلين.
وقد عمل عدد من الفنانين «الكوميديين» المعروفين على تكريس هذا النمط الفني وعُرفوا به من خلال بعض القنوات التلفزيونية التي دأبتْ على إنتاج هذا النوع الفني.
ولكن من عيوب هذه «السكيتشات» الفنية أنه سرعان ما تنزلق بسبب خفتها وعدم رصانتها إلى التهريج أو الإسفاف لتفقد إتزانها ويتم تفريغها من أية حمولة فنية أو فكرية أو حكمة أو موعظة أخلاقية، وبعدما تعرض أمامنا على شاشة التلفزيون سرعان ما يلفُّها النسيان ولا تترك أيّ أثر فني.
وهذا النمط أو النوع الدرامي الهزلي «الخفيف» الذي يصل إلى حد الفراغ الدرامي غالباً ما يواجه بسيل من الأسئلة عن جدوى إنتاجها وتقديمها، ورُبَّما يثير أحياناً السخرية أو الامتعاض من قبل الجمهور العراقي العام.
صحيح لدينا ممثلون عُرِفَوا بالأداء «الكوميدي»، ولكننا مع ذلك نفتقد النص «الكوميدي» الذي ينهض بذلك الفنان إلى مواقع الخصوصية والحضور الفني المتميز، وهذه النقطة بدورها تسحبنا إلى قضية المؤلف أو الكاتب الدرامي المتخصص بالفن الكوميدي.
فنحنُ بشكل عام نفتقد مثل هذا النوع من المؤلفين ولمْ يبرز طوال السنوات الطويلة الماضية أيّ كاتب متخصص بالفن الكوميدي، وللتعويض عن هذا الغياب والفقدان تلجأ القنوات الفضائيّة غالباً إلى التجريب والاجتهاد والمحاولات الفنية وَوَجَدتْ ضالتها أخيراً بتلك «السكيتشات» التي تحدثتُ عنها آنفاً.
ونتيجةً لهذا النقص الواضح والغياب الدائم للنص الكوميدي ببنائه الدرامي وشخصياته ورسالته الضمنية اضطر بعض الممثلين لترك الساحة الفنية بعد أن يئس من الحصول على النص الكوميدي الذي يكرّسهُ فناناً كوميدياً ناجحاً فقد اختفى أولاً الفنان لؤي أحمد عن الشاشة الكوميدية منذ سنوات، وبعده انسحب الفنان القدير قاسم الملاك من منذ أكثر من أربع مواسم متتالية من سباق الدراما الرمضانية ليفسح المجال واسعاً لغيره من الفنانين الذين حاولوا إشغال الفراغ بأعمال لمْ تنجحْ حتى الآن بإثبات جدارتها النوعية ونجاحها الجماهيري.
فعلى سبيل المثال لا الحصر عاد الممثل القدير إياد راضي في عمله الجديد «أبجد هوس» للمخرج أمجد زنكنه من دون أيّ تقدّم يذكر إن لمْ يكنْ قد تراجع خطوة إلى الوراء نتيجة لعدم توفيقه في اختياره لنص محمد قاسم الركيك والقائم أساساً على التقليد الفج للعمل الكوميدي الخالد للراحل سليم البصري «تلميذ مسائي» من ضمن حلقات مسلسل «تحت موسى الحلاق» والذي  يدور ضمن مفارقات و «قفشات» مجموعة تلاميذ حملة محو الأمية في ستينيات القرن الماضي وكان مع «البصري» في تلك التمثيلية كل من حمودي الحارثي وخليل الرفاعي وراسم الجميلي وغيرهم.
في حين أن الفنان القدير إحسان دعدوش ما زال يراوح في مكانه ويكرّر نفسه في العمل الفكاهي «حامض حلو» منذ أكثر من أربعة مواسم متتالية رغم إجادته وتفننه في تأدية الشخصيات المتعددة والمتنوعة التي يقدُّمها في عمله بمساعدة مجموعة الممثلين الذين معه.
ومن أجل ألا أظلمُ أحداً ولا أحمّلُ الأشياء ما لا تحتمل يتوجب عليَّ التأكيد، هنا، على فكرة مهمة جداً وهي أن جميع هذه الأعمال التي تندرج تحت عنوان «الفكاهة»  و»السكيتشات» الدرامية [وقد انضمَّ إلى قائمتها مؤخراً البرنامج الدرامي «قط أحمر» للفنان أحمد وحيد] تتم عمليات كتابتها وتمثيلها وإنتاجها بهدف المتعة والتسلية والترفيه وبث النكتة والطرافة وإشاعة المرح، ودائماً يتم توقيت عرض هذه الأعمال مع موعد الإفطار المسائي في رمضان،
ومن هنا يمكن تشبيه هذه الأعمال على أنها  بمثابة صحن الحساء الساخن!
والسؤال هنا بهذا الصدد: هل نكتفي بالنظر إلى هذه الأعمال الفكاهية الخفيفة على أنها مجرد «صحن حساء» لا أكثر؟
أَمْ أن  الضرورة الفنية وحاجتها للأفكار والقيم والاعتبارت ستبقى قائمة لتدفعنا للنظر إلى تلك الأعمال الفكاهية من زاوية أخرى ومحاكمتها اجتماعياً وفكرياً وأخلاقياً، لكنني لا أقول نقدياً لأنَّ الحقل الأخير سوف يصعب عملية التلقي ويجعلها ثقيلة جداً على كل من الفنانين العاملين فيها وعلى الجمهور العام نفسه أيضاً.