الموقف الأول يرى أن الصوم يؤدي الى اضطراب عمل الدماغ بانخفاض مستوى الجلوكوز في المخ، واختلال في الهرمونات وعمل الساعة البيولوجيَّة للإنسان. فالمعتاد أن جسم الإنسان ينشط في النهار ويستهلك طاقة، وأن النوم في الليل يعمل على ترميم ما اهترأ في الجسم، وأن الصوم، وفقاً لهذا الرأي مضرٌ بجسم الإنسان، لأنه يضطره الى أن يسهر في الليل وينام كثيراً في النهار، ويسبب السمنة، وله انعكاسات نفسيَّة سلبيَّة يكفيك منها التوتر العصبي وتعكر المزاج والنرفزة والصداع والدوخة الناجمة عن انخفاض نسبة السكر في الدم.
الموقف الثاني على العكس تماماً، ويردّ على الأول بأنَّ موقفه يشجعُ على الروتين في عمل الجسم الذي يؤدي الى الكسل والموت قبل الأوان، بينما التغيير يؤدي الى تنشيط البدن ويمنحه حيويَّة تطيلُ من عمره، وأنَّ الصوم يدرّب الإنسان على إرادات التحكم بالذات وضبط النفس والسيطرة على الدوافع، ويساعد على ترك عادات مضرة كالتدخين والغش في عمليات البيع والشراء، ورذائل أخلاقيَّة مثل الكذب والنميمة وقضم سمعة الناس في أعراضهم، وخفض العدوان، مستشهداً بدراسات ميدانيَّة تشير الى أنَّ نسب الجرائم بأنواعها كافة تنخفضُ بشهر رمضان في البلدان الإسلاميَّة.
الفوائد النفسيَّة
في العراق، والعالم العربي أيضاً، تفتقرُ ثقافتنا الى معرفة الفوائد النفسيَّة للصوم وانعكاساتها على السلوك والشخصيَّة والصحة النفسيَّة والجسديَّة. وما سنقوله ليس من عندنا بل هو نتائج دراسات أجراها باحثون في بيئات اجتماعيَّة مختلفة.
ففي كتابه (الإنسان ذلك المجهول) يؤكد الحائز جائزة نوبل في الطب الدكتور ألكسيس كاريك ما نصه: (إنَّ كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطّل وظيفة أدت دوراً عظيماً في بقاء الأجناس البشريَّة، وهي وظيفة (التكيف على قلّة الطعام). بمعنى أنَّ الصوم يدرّب جسم الإنسان على التكيّف في الأزمات الأقتصاديَّة. وعلى وفق ما يراه هذا الطبيب فإنَّ خلف الشعور بالجوع تحدث ظاهرة أهم هي أنَّ سكر الكبد سيتحرك، وتتحرك معه أيضاً الدهون المخزونة تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد، لتحقق في النهاية الوصول الى كمال الوسيط الوظيفي للأعضاء.
ويخلص الى القول بأنَّ الصوم ينظّف ويبدل أنسجتنا ويضمن سلامة القلب.
وينبه علم النفس المعرفي إلى أنَّ الصوم البيولوجي يعملُ على تعديل التفكير في كيفيَّة العيش، ومن ثم يصح القول إنَّ الصوم بمدلوله الإسلامي يجمعُ البعدَ النفسي المعرفي بالبعد الجسدي، وهذا هو جوهر أيَّة مقاربة سلوكيَّة فاعلة، بل حتى في الشق المادي للصوم فإنَّ تعديل السلوك الاستهلاكي لا يتأتى فقط بالامتناع البيولوجي، بل لا بُدَّ من تعديل رؤية الشخص إلى معنى الحياة ذاتها.
ولعلنا لا نحتاج إلى التأكيد على قوة البعد النفسي وعمق تأثيره في كيان الإنسان، فمعلوم أنَّ كثيراً من الأمراض يكون باعثها نفسياً ومعرفياً؛ وهذا ما جعل حقل الطب السيكوسوماتي (النفسي/ الجسمي) يأخذ مرتبة معتبرة في مجال السايكولوجيا المعاصرة، وأساس المنهجيَّة السايكوسوماتيَّة هي أنَّ النشاط المعرفي يؤثر جسدياً، فالاعتقاد ولو الواهم بالمرض يؤدي إلى الوقوع في المرض، وهذا يؤكد صحة الأثر «لا تتمارضوا فتمرضوا».
تجاوز أنانيَّة الذات
الصوم يعلمنا أيضاً أنْ نتجاوزَ أنانيَّة الذات فنفكر في الآخر/ الفقير، النازح، المحتاج، شعب غزة، ونحسَّ فعلياً بإحساس الجوع والمعاناة، وبذلك فهو ليس فقط تدريباً على ضبط الرغبة، بل يفيدنا بقيمة إنسانيَّة نبيلة هي الشعور بالآخر، سواء كان «أخاً لنا في الدين أو نظيراً لنا في الإنسانيَّة» فيكون ذلك أساساً مهمَّاً من الأسس التربويَّة لتحقيق التضامن الاجتماعي. وبهذا فإنَّ أثر الصوم يتعدى البعد الجسدي والنفسي إلى الاجتماعي، ويعملُ على تحرير الإنسان من الشعور باليأس، لتكون بأجمل حالاتها في الصحة النفسيَّة والعقليَّة والجسديَّة.
والآن، وبعد هذه التفسيرات العلميَّة للصوم، مع أي موقفٍ أنت؟