ديزيريه سقال: التمكّنُ من أدوات الشعر يحوّل أبسط الموضوعات لتحفة جماليّة
حاورته: ضحى عبدالرؤوف المل
من البديهيّ أن يكون الماضي جزءا من الضمير الجمعيّ العربيّ عموما، واللبنانيّ خصوصا، لأن الإنسان يتطور ويتغيّر، ولكن جذوره وأصوله تبقى فيه، وتظهر بشكل أو بآخر. والحضارة، بشكل عام، لا تكون من غير أصول عريقة، تضرب في عمق الماضي، ولكن هذا لا يعني أن يبقى الماضي كما هو، لأن الزمان متحول باستمرار، وهو يؤثر في الناس، ويدفعهم، شاؤوا أم أبوا، إلى التحول. والشعر الأصيل فعل حضاري، لا ينفصل عن الواقع الذي يعيش فيه، وهو يحمل رؤيا تنسل من مجتمعه، ومن الحضارة التي يكون منجذرا فيها – ولا أبالغ إن قلت إن الشعر (الأصيل طبعا) هو فعل حضاري، كمعظم الفنون العظيمة.
وأعتقد أنَّ قصائد الشاعر والدكتور ديزيريه سقال تكمن هويّتها في ماضٍ تطوّر مع الوقت، ولكنّ نسغه لا يزال حاضرًا، على الرغم من اختلاف الشكل والمفهوم. فالشعر يبقى، في جوهره، فِعلَ تأكيد على الكينونة، والأصيل منه يكون فعلَ استشرافٍ واستيعابٍ لجوهر حركة الواقع الذي ينمو فيه. ومتى قدّم للجمهور شعرًا جيّدًا أصيلًا انجذبَ الناس إليه؛ فليست المسألة مسألة جنس أدبيّ بحد ذاته، بل هي مسألة قيمة للعمل الذي يُقَدَّم. وكلّ عمل ينفصل عن جذوره، يفقد هويّته، ويسقط مع الزمن. فسقال يحمل كينونة شعرية ذات جوهرية أدبية لها خاصيتها وهو شاعر وباحث وناقد أكاديمي لبناني له العديد من المؤلفات الشعرية والنقدية ومعه أجريت هذا اللقاء.
* ديزيره سقال ولواء الشعر الحديث ومتعة تحمل نفحة الحياة لماذا هذا التوجّه الشعريّ؟ وهل اللغة العربية وصعوبتها هي سبب هروب بعضهم نحو الخاطرة والوجدانيات؟
- يجب أن أؤكّد على مسألة مهمّة جدًّا هنا: صحيح أنني شاعر من شعراء الحداثة العربية والتجديد، لكنّني متمكّن من الشعر التقليديّ، ومن تاريخ الشعر القديم، وأكتب الأبيات الشعريّة بطلاقة. هكذا بدأتُ، من الأصول، ثمّ انتقلتُ في وقت معيّن إلى الحداثة عندما اكتشفتها.
ما أريد أن أقول هو أنّ الشاعر يجب أن يصعد سلّم الشعر تدريجيًّا، وبالتطورّ الطبيعيّ، ليتمكّن من شعره، ولتكون له رؤيا جماليّة محدّدة. أنا لا أعتقد أنّ الشاعر يمكن أن يبدأ من أعلى السلّم، لأنّه عندها لا تكون له جذور، ويتكشّف شعره عن خواء، سرعان ما يدرك الناس أنّه ليس بشاعر، وهذا شأن الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم شعراء اليوم. هؤلاء أسمّيهم “الشعارير” و”المستشعرين”، وهم كُثُرُ في أيّامنا، وا أسفاهْ! لكنّ الزمان يُغربل كلّ شيء، ومن المؤكّد أنّ مصيرهم سيكون في سلّة المهملات.
هذا أوّلًا. ثانيًا إذا أردنا أن نمارسَ فنًّا ما فعلينا أن نتمكّن من أدواته. وأداة الشعر هي اللغة، فعلى مَن يعتبر نفسَه شاعرًا أن يكون متمكِّنًا من اللغة، ومُلِمًّا بها إلمامًا كبيرًا، وإلّا فكيفَ يكون دقيقًا في ما يعَبِّرَ به عن تجربته؟
ولا بدّ لي أَن ألفتَ هنا، أنَّ اللغةَ العربيّةَ ليست صعبةً كما يقولون، لأنّ أصولها سهلة عمومًا، وأنا بصفتي أستاذًا سابقًا في الجامعة اللبنانيّة للغة – فقد درّست قواعدها حوالَ ثلاثةَ عشر عامًا – يمكنُني أَن أوصِل هذه الأصول بسهولة كبيرة، وأَن يفهمها الطالب بلا صعوبة، فإذا أراد التوسّع فيها فهذا، عندئذٍ، شأنه.
ثالثًا، في الشعر إيقاع خاصّ، قد يكون بفعل أوزانه، أو بفعل موسيقى داخليّة هامسة، ومَن لا يُتقن هذه الموسيقى، على أنواعها، لا يمكنه أن ينجح في إيصال تجربته، فما الذي يميّزها عندئذٍ عن التجربة النثريّة؟
القضيّة المزعجةُ هي في كون “الشعارير” لا يتقنون اللغة، ولا يعرفون شيئًا عن موسيقى الشعر، فيهربون من صعوبة التعبير عن الموضوع إلى موضوعات مسطّحة وبسيطة، ولكنّهم لا يعرفون أنّ أبسط الموضوعات يمكن أن يحوّلها الشاعر إلى تحفة جماليّة إذا كان متمكّنًا من أدوات الشعر، وكذلك أصعب الموضوعات يمكن أن تصير معه بسيطة إذا كان قادرًا على التعبير عنها، ويستطيع هذا بلغة بسيطة أحيانًا إذا شاء.
* نوبل والشعر ما العائق عربيًّا، ولماذا كلّ هذه الصعوبة والشعر رأس الهرم عندما يحمل رسالة عظيمة؟
- جائزة نوبل تدخل فيها السياسة بشكل أو بآخر، شئنا أم أَبَيْنا. إنّها جائزة عظيمة، ولكنّها جائزة كباقي الجوائز في نهاية المطاف.
عندما كان أدونيس مرشّحًا لهذه الجائزة في العام 1983، أُعطيت لنجيب محفوظ، مع أنّ أدونيس، برأيي، أهمّ بكثير من نجيب محفوظ، لأنّه أحدث هزّة عميقة في الشعر العربيّ؛ وسبب نجاح محفوظ دون أدونيس هو أنَّ مصر كانت قد وقّعت اتفاقية سلام مع إسرائيل، ونجيب محفوظ مصريّ، في حين أن سوريا دولة مقاومة لم توقّع أيّ سلام مع دولة العدوّ، وأدونيس سوريّ، لهذا السبب حُجِبت عنه الجائزة وأعطيت لمحفوظ. المعيار هنا غامض، فأيّ من هذين الأديبين قد ترك أثرًا أعمق في الأدب؟ وأيّ منهما قد ابتكر فيه جديدًا؟ هذا ما يجب أن نتوقّف عنده.
*ما الذي تقوله لشعراء اليوم؟ وما هي القصيدة التي تردّدها ذهنيًّا في أغلب الأوقات؟
-أتناول في إجابتي الشعراء الأصيلين، لا المستشعرين والشعارير، فهؤلاء لا يعنونني. شعراء اليوم بينهم أشخاص جيدون وموهوبون، سواء أكتبوا باللغة العربية أم اللبنانية. وبعضهم مثقّف جدًّا، ويحمل شهادات عالية، وبعضهم قد أصدر عددًا من الدواوين، في حين أنَّ آخرين أعمالهم قليلة حتى الآن، ولكنّهم يبشرون بالخير.
- برأيي يحتاج الشاعر، إذا امتلك موهبة حقيقة، إلى ثلاثة أشياء: إتقان اللغة، لأنّه يعمل من خلالها، وهي أداته الرئيسة؛ والثقافة، فهي مَعين لا ينضب لرؤية الشاعر؛ والإلمام بموسيقى الشعر، لأنّه عندما يكتب يُفَعِّلُ شعورَه ويصَعِّدُه بالموسيقى. هي ثلاثة أشياء لا مَحيد عنها ليكون الشعر ناجحًا. فالشاعر الأصيل راءٍ بشكل من الأشكال، وهو ينقل إلى الآخر، وإلى الأمّة، تجربة تترك فيهما أثرًا، وبالتالي تحدّد موقفه، كما تكشف عن هويّته الشعريّة، وهذه الهوية ترتبط بالجذور دائمًا، مهما كان الشاعر مُجَدِّدًا.
بالنسبة إلى الشقّ الثاني من السؤال، أقول إنّني لا أردِّد قصيدة، بل أتفاعل مع شاعر. وثمّة شعراء تركوا فيّ أثرًا عميقًا – لا سيّما بلغتهم الشعريّة وبتجربتهم المميّزة – هم، خصوصًا، أدونيس، وهو بنظري أفضل شعراء العالم اليوم، وخليل حاوي، والياس لحود. فنصوص هؤلاء، على اختلاف أنماطها، رائعة جدًّا، وتحمل ميزة خاصة وطعمًا مميّزًا.
* جدلية القدماء وبعض المحدثين ما حقيقتها؟ وأين تجد نفسكَ بينهم؟
- طوال التاريخ العربي كانت هناك معارك بين القدماء والمحدثين، وكانت الغلَبة، قديمًا، للقدماء، لأنّ السلطة السياسيّة، من جهة، كانت إلى جانبهم، والذوق العامّ، من جهة أخرى، كان يميل إليهم، والسبب أنَّ العربيّ كسول، لا يريد أن يُرهِقَ نفسه بالارتقاء إلى الجديد، لأنّ الجديد يحتاج إلى مجهود لفهمه، والعربيّ قد اعتاد أن يسمعَ المعانيَ نفسها، باللغة نفسها. من هنا نفهم ما نقله الصوليّ عن أبي تمّام إذ قيلَ له: “لماذا لا تقول من الشعر ما يُفْهَمُ؟” فأجاب: “وأنتَ، لماذا لا تفهم من الشعر ما يقال؟” هذه الإجابة تعكس أمرين اثنين: الأوّل أنّ المتلقّي التقليديّ لا يرغب في إرهاق نفسه بالبحث عن دلالات المعنى، لأنّ هذا يحتاج إلى مجهود، وهو كسول، لا يُجهد نفسه؛ والأمر الثاني أنَّ المجدِّدَ جريء، مواجِهُ، يرفض أن يتوقّف عند الحدود التي يعرفها الآخر، ويفتح باب التجربة على مصراعيه.
اليوم لا يزال هذا الصراع قائمًا. وإن كانت الغلبة، في لبنان، تميل إلى كفة التجديد، فالمقلّدون لا يزالون أقوياء في العالم العربي.
إنّ الذوق يتغيّر، فالموسيقى تغيّرت، والتجربة تغيرت، ولا يجوز اليوم، في هذا العصر، أن تبقى القصيدة على تكرارها في شكلها التقليديّ المؤلَّف من صدر وعجز، وتكرار للموسيقى نفسها، وللرؤية والموضوعات نفسُهما.
يجب أن ننتقل إلى المستقبل، وخصوصًا أنّنا في عصر رقميّ. في الواقع، نحن أمام تداخل للأنواع الأدبيّة في النصّ الواحد، والأفضل أن نسمّي المكتوب “نصًّا”، فقد يتداخل فيه الشعر والنثر والتاريخ والمسرح، وربّما النثر أيضًا. خذ مثلًا كتاب “فاوست” الذي أصدرته، ففيه ثلاثة نصوص في كلّ صفحة: القصّة في الوسط، والشعر لجهة اليمين، والنصّ الحرفيّ الدينيّ الذي تتناوله الصفحة لجهة اليسار. كذلك الأمر في نصّ “الكتاب” لأدونيس، حيث نجد أحيانًا أربعة نصوص، النص الشعري، والتاريخي، والحاشية، والنصّ الجانبي. لهذا السبب أنا لستُ مع القدماء. بل مع المجدّدين، حتى في الشعر المكتوب باللغة العاميّة.
* هل يختلف شعر ديزيره سقال عن سواه برأيك؟ وهل أنصفَكَ النقاد؟
من المؤكّد أنّ شعري يختلف عن سواه، فلكلّ شاعر شخصيّته وصوته، عندما يبلغ نضجًا شعريًّا معيّنًا. كلّ شاعر يتأثّر بغيره في مرحلة من المراحل، ولكنّ هذا التأثُّر يصبُّ في تنمية ثقافته وشخصيّته، إلى أن يبلغ يومًا نضوجه، فيذوب ما تأثّر به في كيانه، ويتّخذ له وجهة خاصّة: تتبلور لغته الشعريّة، وتتحدّد تجربته، وتتّخذ رؤياه مساحتها الخاصة.
لهذا السبب أقول لكِ إنّ لكلّ شاعر شخصيتَه الخاصّة به، وهو، ولو بدا يشبه شاعرًا آخر في بعض النقاط، إلّا أنّه يبقى مميّزًا، متى كان شاعرًا أصيلًا بالطبع. بالنسبة إلى النقّاد، لا أعرف. أظنُّهم أنصفوني. أتكلّم هنا على النقّاد الحقيقيّين، لا على الكلام الإنشائي أو الصحفي الذي يتناولني.
لكنّني أميّز بين الناقد الصحفي الأدبيّ الذي أُجِلّ وأحترم، وبين الصحفي الذي يتعدّى على مهنة الأدب. ثمّة نقّاد صحفيّون تناولوني، وهم مُفْضِلون، وأنا أشكرهم، لأنّ قراءتهم لي كانت جيّدة، فيما تناولني بعض النقّاد في الصحافة، ولكنّ نقدهم كان سطحيًّا، وأنا أشكرهم أيضًا. كما تناولني نقّاد آخرون في بعض كتبهم، وتناولني بعض الطلاب في رسائل الماستر وأطاريح الدكتوراه. هؤلاء نقّاد أكاديميون، بالإضافة إلى مَن كتبوا الكتب النقدية.