عيدُك هو كلُّ الأيَّام.. الأم العراقيَّة قصصٌ لا تنتهي
بدور العامري
لم تتجاوز وسن العشرين عاما، إلا أنها تخطت كل القيود المجتمعية التي فرضت على المرأة في مجتمعاتنا، اذ عملت سائقة لعجلة (الستوتة)، وهي تتجول بين الازقة والاحياء لتبيع الخضراوات، متسلحة بقوة جبارة لا تحدها حدود، وضعت أمام عينيها اعالة اطفالها الايتام، وعدم الحاجة إلى الآخرين، إنها الأم العظيمة التي يمكن أن تتخلى عن كل شيء، إلا دور الأمومة.
الصابرات
سيدة الصبر، امرأة قد خلقت من هذا المعدن الاعجازي، ولدت مناضلة وتسلقت طفولة شديدة. حتى غدت أيقونة العائلة.. تلميذة، عاملة، فلاحة تجري على النهر في خطواته المذهلة اندلعت في بلدي الحروب. فارتجفت قلوب. وغادرت حياتنا قلوب، فاحتضنت سيدة الصبر صدورنا وأصبحت أمًا لنا.
كيف لك أن تتخيل صبر أم الشهداء؟ تلك السيدة التي فقدت ستة من أبنائها فداءً للأرض والعرض خلال حرب عصابات داعش الاجرامية، لكنها بقيت تلك الصامدة الواقفة كالنخلة العراقية، التي كلما تزايدت عليها الهموم والمصاعب وقفت بوجه الريح معطاءة بأغلى ثمر، وآلاف النساء اللواتي فقدن فلذات أكبادهن أو الأخ أو الزوج والقريب، هؤلاء المحتسبات لا يختلفن في مزاولة مهارة الصبر عن اخواتهن في الفترة السابقة، أيام حكم الطاغية والبعث المجرم، الذي لم يفرق في ظلمه على من يخالفه في الرأي أو العقيدة السياسية بين رجل أو امرأة أو طفل صغير، ليأتي الانتقام من عائلة وذوي المعارض في ذلك الزمن المقيت شر انتقام، إذ بعد أن تقوم أجهزة النظام بإعدام الشخص المعني، تعمل على معاقبة ذويه بالسجن والتعذيب أو الحرمان من الوظيفة، وكثيرا ما عانت أمهات ونساء المعارضين السياسيين الامرين في تلك الفترة هن واطفالهن.
الكفاح في الحياة
من مفارقات الحياة في العراق، إنك نادرا ما تجد أمًا تعيش بصورة طبيعية وتمارس دورها التقليدي حالها حال الأمهات في العالم، وهي صورة معكوسة بسبب الظروف والواقع الذي عاشته البلاد ولا تزال من حروب ومآسٍ واضطرابات وحصار اقتصادي انعكس تأثيره على مختلف مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والصحية والثقافية، كما تحدثت السيدة العصامية أم حسين، اذ تقول "توفي زوجي عام 1992 وترك لي خمسة أبناء قاصرين، دون أي مصدر للرزق كي نعتاش منه، الا أني لم أقف مكتوفة الايدي أو انتظر المعونة من الأقارب، الذين لم يكن حالهم بالأفضل، بسبب ظروف الحصار التي جعلت الناس متساوين في العوز والمحرومية، فعملت على بيع الملابس المستعملة (البالات)، وبحسب المقربين من أم حسين إنها امرأة قوية ومثابرة، استطاعت ان توسع عملها وتساعد النساء الاخريات في توفير فرصة عمل لهن، كما استطاعت أن تهيئ الظروف المناسبة لأبنائها ومساعدتهم في اكمال إلى دراستهم الجامعية، فاصبح احدهم طبيبا والاخرون مهندسين ومعلمين، إنها فعلا نموذجٌ للمرأة المكافحة المعطاء.
الشجاعة
من منا لم يعرف أو يسمع بملحمة السيدة عالية خلف الجبوري (ام قصي) وقصتها مع انقاذ 58 جنديا عراقيا من الموت المحقق بعد مطاردتهم من قبل عصابات داعش الإرهابية، التي سيطرت على محافظة صلاح الدين في تلك الفترة، اذ يقول احد شباب سبايكر الناجيين مهند: إن هذه السيدة الشجاعة خاطرت بحياتها وحياة أسرتها من اجل انقاذنا، حيث أوتنا في دارها لمدة 17يوما وتنقلنا بين بيوت معارفها، خوفا من اكتشاف داعش لوجودنا في مكان محدد ورافقتنا في الطريق الذي يحتوي 11سيطرة لعصابات داعش الإرهابية، واستطاعت بكل ما تملك، ان تحافظ علينا وايصالنا إلى بر الأمان، ام قصي ونتيجة لموقفها الإنساني والوطني الكبير الذي قامت به، تمَّ تكريمها من بين اشجع عشر نساء في العالم لعام 2018.
أدوارٌ متعددة
لم تكتفِ الأم العراقية بدور المربية والساهرة والساعية إلى توفير لقمة العيش لأبنائها، بل اخذت الكثير من الأمهات دور الطبيب والمعالج للمريض في الاسرة، وخاصة اذا كان من الأبناء من يحمل مرضا عصبيا من الصعوبة التعامل معه، هذه هي السيدة شيماء الهاشمي التي أخذت على عاتقها رعاية وتأهيل طفليها محمد وآية، بعد ان عجزت المراكز الطبية والتأهيلية عن تحقيق أي تقدم في حالتهم الصحية، اذ تقول الهاشمي، "دفعتني حالة ابنائي المصابين بالتوحد وفقدان البصر أن اتسلح بقوة العلم والمعرفة وابدأ مشوار معالجة اطفالي بنفسي، عن طريق الانضمام إلى الدورات المتخصصة في هذا المجال والبحث المستمر عن كل ما يصب في مجال تأهيل وكيفية التعامل مع هذه الحالات، وبالفعل استطاعت هذه السيدة المثابرة أن تقدم لأبنائها الرعاية الصحية المطلوبة والتعامل الصحيح التي تصفه بالحب الذي لا يمكن أن تمنحه غير الأم، وتمكنت من فتح مركز خاص بها، لتقديم المعونة في مجال تأهيل ذوي الإعاقات بصورة مجانية.
منزلة الأم
أوصت كل الشرائع والأديان على احترام ومحبة الوالدين، إلا أن الإسلام أعطى تكريما خاصا للأم وذكره في كتابه العزيز واحاديث الرسول الكريم، كي يكون مرجعا ثابتا في التعامل مع الوالدين وماهي حقوقهما، وبحسب رجل الدين محمد حسين، يقول إن سبحانه وتعالى قرن البر بالوالدين بعبادته جل علاه، كما في قوله تعالى "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا"، ويبين حسين ان هذه الآية تعطي تفسيرا واضحا حول كيفية التعامل مع الوالدين واهمية احترامهم وتقديرهم وبرهم، وعدم التجاوز عليهم حتى بكلمة جارحة، وقد اعطى الإسلام للأم الحصة الأكبر من هذا التقدير والاحترام لما لها من منزلة عظيمة ومكانة خاصة، اذ يبين هذه الخصوصية الحديث الشريف للرسول الكريم محمد (ص) عندما جاء رجل اليه ليسأله من احق الناس بصحبتي يا رسول الله؟ قال: امك، قال ثم من؟ قال: امك قال: ثم من؟ قال: امك، قال: ثم من؟ قال: ابوك" صدق رسول الله.
تاريخ المناسبة
تختلف الروايات حول تحديد يوم معين للاحتفال بعيد الأم من دولة لأخرى، ويعتقد المهتمون بالشأن ان الاحتفال بهذه المناسبة الاجتماعية بدأت مع الحضارة الفرعونية ومن ثم وصلت إلى دول أوروبا، اذ نلاحظ هناك عددا من الدول تحتفل بعيد الأم اسوة بأعياد الربيع، اذ تقول الشابة الكردية دلفين محمد ذات 35عاما "نحن في كردستان العراق نحتفل بأعياد نوروز تزامنا مع عيد الام، باعتبار الام هي ربيع الحياة وهي السبب في مجيء الأبناء إلى هذه الدنيا، وهي معنى النماء والخضرة.
وتضيف محمد "انا باعتقادي الشخصي أن الام تستحق كل أيام السنة للاحتفاء بها وبدورها العظيم في هذه الحياة، يذكر ان أول من بدأ بتخصيص يوم لعيد الام في بداية القرن العشرين هم الأمريكان، اذ جاءت الفكرة بدعوة من الناشطة الامريكية (آنا جرافيكس) عام 1905 لغرض تخليد ذكرى أمها المتوفية، حيث أقامت صلاة في الكنيسة باسم والدتها، لتستمر دعواتها إلى تخصيص يوم لاحتفاء بالأمهات، حتى نجحت في تحقيق رغبتها ليصبح يوم 10 أيار عطلة رسمية وعيدًا رسميًّا للأم في الولايات المتحدة عام 1914، في الوقت الذي عملت بعض دول أوروبا وامريكا اللاتينية على تحديد يوم 8 آذار كعيد للام، فيما اعتبر يوم 21 من الشهر ذاته يوم اجتماعيا للاحتفال بعيد الأم في البعض الاخر من دول أوروبا والشرق الأوسط.