قاسم الشمري
قبل أن تبدأ عزيزي القارئ أطلب منك أن تسترخي، وتأخذ نفساًعميقاً، ولا ترمني بما ليس بي، فأنا لا أدعو إلى شيء بعينه، فما هي إلا أسئلة وخيوط أحاولُ ربطها بوتد التفكير المنطقي لعلنا نخرجُ إلى فسحة الإجابة. يقول الله عز وجل في محكم كتابه العزيز من سورة الأعراف الآية 156 ( ورحمتي وسعت كل شيء) وفي آية أخرى من سورة غافر (وسعت كل شيء رحمة ً وعلما)، وقبل الذهاب إلى تفسير الآيتين وتأويلهما، دعونا نتساءل ما هو (الشيء) وما هي الشروط التي يجب أن توجد لنحدد الشيء؟
يقول ديمقريطس (بالعُرف والعادة يوجد الحسن والقبيح والحلو والمر، أما في الواقع ليس إلا الذرات والفراغ) وبناءً على هذا القول تُقسم الأشياءُ إلى محسوسة وملموسة، ويؤكد ديوي ذلك بقوله (إن مفهوم مادة الأشياء الذي يوجد بالفعل في تطبيق العلم لا يمتّ بصلة إلى مادة الماديين) ليأتي ول ديورانت ويكون أكثر تحديداً لمعنى المادة بقوله (أنت تعرف المادة بالإحساسات التي اجتمعت في هيأة معان ٍ في عقلك).
وكي لا نخوض أكثر في الجدل المحتدم بين الماديين والمثاليين نستخلص مما تقدم أن شرط تحقق (الشيء) هو اجتماع الإدراك الحسي لنا مع الوجود السببي المُعلن والمخفي الفيزيائي والكيميائي له.
وبالتالي فإن كلّ ما هو موجود في الكون هي أشياء، وهي خاضعة لقانون القياس والعلة الخارجية لوجودها، باستثناء الباري عز وجل لأنه معلول بذاته، وهو خارج نطاق القياس، وبالتالي خارج نطاق الأشياء.
فعلة القياس والمقارنة أن يكون المُقارن من جنس المقارن به، ونستدل على ذلك من خطبة الإمام زين العابدين بن الحسين “عليهما السلام” في مجلس يزيد بن معاوية عندما أمر الأخير أن يرفع الأذان ليقطع على الإمام خطبته، التي هزت الناس في معقل الأمويين فصاحَ المؤذن (الله أكبر) ليرد عليه الإمام زين العابدين عليه السلام (كبرت كبيراً
لا يُقاس).
وما تقدم يقودُنا إلى إن النار شيء والطين شيء، وبالتالي ما نتج عن شيء فهو شيءٌ بالضرورة فيكون آدم شيئاً وابليس هو شيء أيضا.
وقبل أن أرفع خيمة المقال هذا بعمود السؤال الأهم دعونا نُعرج على ما جاء في التفاسير المعتبرة - تفسيرا وتأويلاً- للآية الواردة في مقدمة المقال، ففي التفسير يقول السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان (الرحمة الإلهية واسعة ٌ كلّ شيءٍ فعلا ً لا شأنا، ولا تختص بمؤمن ولا كافر ولا ذوي شعور وغيره ولا دنيا ولا آخرة والمشيئة لازمة لها).
أما الزمخشري في تفسيره الكشاف فيقول في تفسير الآية (أما رحمتي فمن حالها وصفاتها أنها واسعة تبلغ كلّ شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا متقلب في نعمتي).
ويقول ابن كثير في تفسيره (إنها آيةٌ عظيمةُ الشمول والعموم).
ويقول القرطبي في تفسيره (وقوله تعالى ورحمتي وسعت كلّ شيء عموما ً لا نهاية لها)، ويقول الطبري في تفسيره (ورحمتي عمّت خلقي كلّهم).
أما في التأويل – والذي باعتقادي إن تراثنا القرآني والديني ابتُلي بأكثره- فيربط الزمخشري في كشافه الآية بما بعدها ويجعل الرحمة مختصة بالذين (يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) وما استدراك الآية إلا حثٌّ إلهي للبشر على التقوى والزكاة والتفكر في آيات الله المبثوثة في الآفاق وفي أنفسنا، وهي جميعها أمورٌ أخلاقية بحتة تهدف إلى تنظيم الأُمور الدنيوية، ورسم الأبعاد المتزنة للطبيعة الإنسانية.
ويذهب السيد الطبأطبائي في ميزانه والفخر الرازي في (مفاتيح الغيب) إلى فكرة واحدة مفادها (إن الرحمة في هذه الآية من باب العام الذي أُريد منه الخاص وهي إن رحمته في الدنيا عمت الكل، وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين) وهذا خلاف لمصداق الآية ومدلولاتها (وسعت، كلّ شيء) إذ الله سبحانه وتعالى أعطى رحمته صفة مطلقة عابرة للزمان والمكان فلم يخصصها بوقت ولم يحددها بموقف ومكان.
أما الطبري فيوردُ في معرض تأويل الآية رواية مفادها اإن ابليس عندما سمع الآية قال أنا من الشيء فنزعها عنه وأكمل الآية فقال (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) فقال اليهودُ نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله عن اليهود، وقال الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وجعلها مخصوصة لهذه الأُمة[.
وبعيداً عن سذاجة الرواية لا أدري ما هي ميزة هذه الأمة وكرامتها على الله، فلو كانت رسالة النبي الأكرم محمد “صلى الله عليه وآله وسلم” لتبعوا سيرته واقتدوا بمنهجه ووصاياه في الماضي والحاضر، فكيف ستكون لهم كرامة بأمر لم يعتصموا به؟ وفي سياق هذه الآية المباركة خصص الباري عز وجل من يصيبهم بعذابه بقوله (عذابي أُصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كلّ شيء)، فقد خصص العذاب وجعل الرحمة مطلقة، فالقرآن واضح وصريح هنا، والآية لا تحتمل التأويل الغير منطقي لذلك سنضعه – أي التأويل- في ركن المهملات.
وأورد ابن كثير في تفسيره حديثاً للنبي عن حذيفة ابن اليمان قال فيه (والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الكافر في دينه والأحمق في معيشته والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الذي محشته النار بذنبه والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة ٌيطاول لها ابليس رجاء أن تصيبه).
وهناك فكرة مهمة قال بها بعض علماء المسلمين، وهي التمييز بين الأمر الإلهي والمشيئة أو الارادة الإلهية، فالأمر بطبيعة الحال أما أن يطاع وأما أن يُعصى وللمأمور الخيار في ذلك، أما المشيئة الإلهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات، لأنها بطبيعتها لا تُرد، وكلّ ما يتعلق بالمشيئة واقع بالضرورة.
وبعد ما تقدم أتساءل، ولست من دعاة الذنب واللا أخلاق أو الخروج عن الدين بأُصوله وفروعه، هل سيكفُّ تجارُ اللاهوت عن تصوير الله، وكأنه حاكم غاضب دائما، ولا سبيل إلى رضاه إلا عن طريق التزلف والنفاق والرياء، وكأن الدين كما قال شوبنهاور عبارة عن (رشوة يقدمها الناس إلى الله ليساعدهم على النجاح في الدنيا)، متى يكفّون عن تصديرهم لاحتكار معرفته، كأنهم أبناؤه وما دونهم أبناء زوجته، والسؤال الأهم هنا: هل سينال ابليس باعتباره ليس مذنباً عاديا، بل مذنباً متمرداً رحمة
الله؟
أعرف أن هناك الكثير من القرائن القرآنية التي تُخلّد إبليس في الجحيم، ولكنه الأمل في رحمة الله ورَوحِه وعدم الانصياع إلى سذاجة اليقين (فما أكثر ما يحدث أن يُسلم الإنسان أمام دليل لأنه لا يملكُ ما يرده به، ولكنه يبقى شاكاً في عمق وجدانه ويحس بشيء من عدم الرضا به)، وكما يقول الاستاذ مضاهري: أدخلنا الله وإياكم في رحمته التي وسعت كلّ شيء.