كوكب حمزة.. الرسام الذي غيَّر الأغنية العراقيَّة
صفاء ذياب
مثلما كنا نحلم بلقاء من مثلوا لنا نماذج مقاومة في أيام النظام البعثي، سطرنا حول هذه الشخصيات أساطير لا تحصى، ولأن كوكب حمزة كان أنموذجاً لهذه الشخصيات، فقد أشيع في تسعينيات القرن الماضي أن هذا الملحن العراقي الفذ تمَّ اختياره في الدنمارك لتلحين النشيد الوطني الدنماركي، وقلد أوسمة ملكيَّة لمنجزه في تطور الموسيقى في ذلك البلد الذي عاش فيه بعد سنوات طويلة من التطواف في بلدان عدة حتى استقرّ به المقر في كوبنهاغن. لم تأت محاولة تقديم كوكب حمزة في الوعي الجمعي العراقي بهذه الصورة من فراغ، بل لتأثيره الواضح في الموسيقى والأغنية العراقيَّة أولا، وفي الذوق العام ثانياً. فكانت أغنيته (يا نجمه) لحسين نعمة، وفي ما بعد (يا طيور الطايرة) لسعدون جابر نشيدين حالمين لأجيال كاملة. ومن ثمَّ، لابتعاده منذ عقودٍ طويلة عن بلده جعل من هذا الوعي يصوغ حوله أساطيره الخاصة.
القاسم.. الموطن الأول
حمزة الذي رحل عن عالمنا في الثاني من نيسان، ولد في محافظة بابل ناحية القاسم في العراق في العام 1944
درس في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وأكمل دراسته في معهد الدراسات الموسيقيَّة.
بدأ حياته المهنيَّة كمعلّمٍ في مدرسة المربد في البصرة، وبسبب تخرجه في معهد موسيقي أصرَّ زملاؤه على أنْ يقوم بالتلحين. بعد فشل أغنيته الأولى التي سجّلها في الإذاعة (مر بيّه) وبأداء المطربة غادة سالم وكتابة الراحل طارق ياسين، قرّر خلق أغنية عراقيَّة حديثة تواكب الأغنية العربيَّة، إذ يقول: في حديثٍ خاصٍ معنا (بدأت الورطة حين كنت أعزف أول قطعة موسيقيَّة، حيث كنت أعزف الناي في الفرقة البصريَّة، وأول من كتب عني كان قاسم حول، حيث بدأ بـ(الخديعة) الفنيَّة لأعزف ضمن العازفين والملحنين الشباب المهمين.
بدأتُ أنظر الى رتابة الأغنية العراقيَّة التي كانت مخنوقة بالمقام والموّال و"البستة"“باستثناء أغنية فاضل عوّاد "لا خبر"، على العكس من تطوّر الأغنية المصريَّة الهائل. وبدأت أفكّر بخلق أغنية عراقيَّة حديثة تواكب الأغنية العربيَّة، واستنتجت بأنَّني لا يمكن أنْ أخلقَ أغنية حديثة بأدواتٍ قديمة، والبحث عن نصوصٍ سهلة وعميقة في الوقت نفسه. سمعت في تلك المدّة أغنية "يا نجمة" وأردت أن أقدّمها بشكلٍ ولحنٍ جديدين وبصوتٍ جديدٍ أيضاً، وبعد لقائي الأول مع حسين نعمة، اخترته ليؤدّي هذه الأغنية). وهذا بعد اتجاهه لدراسة الفولكلور، وأفاده وجوده في البصرة وتنوّع الشعراء والملحّنين. وهكذا خرجت أغنية (يا نجمة) التي كانت مزيجاً من الغناء العراقي الفولكلوري والموشّح الأندلسي، وأغنية (الكنطرة بعيدة) التي في مدخلها تأثير من غناء البادية.
هذه البدايات التي كانت أغنية (يا نجمة) منطلقاً جديداً لها مطلع السبعينيات، جعلت من كوكب حمزة طريقاً لتقديم ملامح جديدة في أسلوب البناء الموسيقي والآفاق التعبيريَّة في الألحان وأصوات جديدة خالفت المألوف في شكل الأغنية. هذه الموجة الجديدة كان يقودها نخبة من الملحّنين الشباب آنذاك ومن أبرزهم طالب القره غولي ومحسن فرحان وآخرون.
ومع سطوع نجم حمزة، بدأت تحرّكاته السياسيَّة كمعارضٍ للنظام البعثي، حتى أصبح أحد رموز الحركة الوطنيَّة العراقيَّة، وقتها كان أستاذاً في جامعة البصرة، وكانت تأتيه قصائد من حزب البعث لتلحينها لكنّه كان يرفضها. منع النظام العراقي تداول أغانيه وعدّت حيازتها جريمة يعاقب عليها، ولكنها بقيت تتداول في الجلسات الخاصة. ما اضطرّه للهرب من العراق يوم 21 تموز من العام 1974، وتوجّه إلى تشيكوسلوفاكيا ومن ثمَّ إلى الاتحاد السوفياتي، بعدها درسَ الموسيقى في أذربيجان وتنقّل ما بين كردستان وسوريا وأمريكا، حتى استقرَّ به المقام في الدانمارك منذ العام 1989.
وعلى صفحتها في الفيسبوك، كتبت الروائيَّة أنعام كه ججي، أنها عادت بذاكرتها إلى ذلك اليوم الذي واجهت فيه استجواباً من نوعٍ غريبٍ، بسبب تقرير لي عن مهرجان الأغنية السياسيَّة الذي أقيم في بغداد أواسط السبعينيات. قائلة "حضرت فعّاليات المهرجان الذي نظّمته وزارة الإعلام وكتبت في جريدة (الثورة) عن الأغنية التي فازت بالجائزة الأولى. كانت من كلمات الشاعر كاظم الركابي وتلحين كوكب حمزة. ونشرت في تقريري مقطعاً من كلمات الأغنية: "حبيبين… كانوا بقلبي حبيبين. واحد بهل عين أضمّه وواحد بهل عين… وكانت الغيرة توجّ ما بين الاثنين. سألت قلبي لقيت قلبي يودّي دم على اليسار وما يودّي على اليمين" حال نشر التقرير جاء هاتف من جهة عليا يقول إنَّ المقصود بالحبيبين حزب البعث والحزب الشيوعي والأغنية تنتصر للثاني على حساب الأول. كيف وقعتم في الفخ وسمحتم بنشر تلك الكلمات؟ لا بُدَّ أنَّ المحرّرة متواطئة معهم... كان يمكن لذلك الهاتف أنْ ينهيني كصحافيَّة. لكنّني أذكر الموقف الشجاع لمدير التحرير آنذاك، ناجي الحديثي، الذي دافع عن نشر المقال بأنَّ البعثيين يعتبرون حزبهم هو اليسار الحقيقي وبالتالي فإنَّ الأغنية تنتصر له! لم يجرؤ أحد على الاعتراض على وجهة نظره وانتهت المشكلة". محاولة مسح النظام السابق في ما بعد لتاريخ كوكب حمزة في العراق، جعله يقدّم مقطوعاتٍ موسيقيَّة في المهجر، فألّف مقطوعة موسيقيَّة بعنوان (وداعاً بابل) في العام 1992، ثمَّ قدّم أغنية أخرى بعنوان (الجراد يغزو بابل). بعد مكوثه في أوروبا قرّر الانتقال للمغرب ودراسة الموسيقى، تعرّف هناك على فاطمة القرياني التي قدّمت بعضاً من أغانيه وكذلك أسماء منوّر التي كان معجباً بها.
أطلق النقّاد على كوكب حمزة لقب (مكتشف النجوم) فهو من اكتشف أفضل الأصوات العراقيَّة مثل حسين نعمة ورياض أحمد وستار جبار وسعدون جابر والمطرب الشاب علي رشيد. كما قام باكتشاف المطربة المغربيَّة أسماء المنور، فهو أول من قدّمها للجمهور حين لحّن لها أغنية (دموع إيزيس) العام 1997 والأغنية من كلمات الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم وقدمت الأغنية في القاهرة بمناسبة الاحتفاء بالشاعر أحمد فؤاد نجم وبمناسبة عيد ميلاده السبعين... كما لحّن للعديد من الفنانين العراقيين والعرب مثل مائدة نزهت، فاضل عواد، كريم منصور، فؤاد سالم، المطربة أصالة نصري حين كانت في بداياتها، المطرب الكويتي عبد الله الرويشد وغيرهم الكثير. فضلاً عن أنَّ له العديد من الألحان التي وضعت للمسلسلات التلفزيونيَّة والأفلام السينمائيَّة.
حمزة والمنفى
في أول حديث صحفي أجريته مه الملحّ، كوكب حمزة بعد عودته للعراق بعد غياب لثلاثين عاماً، تحدّث بألم عن المنفى وابتعاده عن العراق، قائلاً: أظن أنَّ تأثير المنفى أكثر من ذلك بكثير، حيث كان باستطاعتي العمل ليل نهار، كما حصل لي في سوريا. لكنّك هناك تشعر بحصار حقيقي، خصوصاً في الدول العربيَّة! حيث إنَّها تتشابه في الدكتاتوريات فقط، فعندما تكون ضدَّ سلطة بلادك.. تكون في المنفى ضد كل السلطات، مع اختلاف في وسائل التعبير بين الطرفين “انت.. وهم “. كنَّا خارج الزمان والمكان، باستثناء اليمن التي تستطيع أن تمارس حياتك فيها كيفما تشاء. إضافة إلى ذلك.. ادعي أنَّ هناك حصاراً على المبدعين العراقيين أينما ذهبوا.
وأكّد حمزة في المقارنة بيننا نحن الذين بقينا داخل العراق وبين من كانوا خارج العراق " كنتم تعيشون في كوخ رديء، وكنَّا نعيش في تابوت نظيف، الغربة غربة أينما كانت، تأتي أنظمة تافهة تحرمك من حبلك السري فتقطع بغمضة عين كل جذورك.. كانت المعادلة صعبة، حيث إنك تفقد “عمودك الفقري“ وأنت هناك، وهنا، في العراق بقيَّة عظامك، علام إذن ذهبت إلى هناك، وعلام خسرت وطنك ولم تحفظ حتَّى كيانك.. كلاهما ضائع في المنفى: انت والوطن!!".
مهندس الموسيقى
وفي قراءته الخاصة لألحان كوكب حمزة، يقول الملحن والباحث الموسيقي قاسم ماجد أنَّ هذا الفنان مهندس ومحدّث جيل السبعينيات، وقراءتي عن ألحانه وموسيقاه فإنَّ كوكب قد لمع نجمه من ثاني أغنية له وبشّر بولادة ملحّن جديد في الساحة الغنائيَّة وأصبح حديث الأوساط الفنيَّة من خلال أغنية (يا نجمة) لحسين نعمة.. أما الأسلوب الذي انتهجه باللحن فهو يتمثّل بأنَّه يبني اللحن جملة جملة بما يشبه أسطة البناء، حيث يبدأ من أول طابوقة الى آخر طابوقة، لذلك تخرج موسيقاه وألحانه متماسكة لا يوجد فيها ترهّل أو حشوة في الجمل.. ففي (يا طيور الطايرة) لسعدون جابر التي هي بمثابة الانتقالة الحقيقيَّة في عالم اللحنيَّة العراقيَّة، حيث بدأ الموسيقي بالأدليب ذهاباً إلى إيقاع الأيوب ثمَّ الموسيقى ثمَّ الأغنية وهنا تشاهد عمليَّة البناء والسلاسة مروراً بالمقامات وهي من مقام الرست (دو)، لكنّه بدأ من درجة الصول ويقفل بدرجة السيگاه.
وهنا لم يعمل كوكب بالقوالب الكلاسيكيَّة القديمة حيث كان الملحن يبدأ من المقام الرئيس ثمَّ الرجوع إليه عند انتهاء الأغنية بل كانت قوالبه مفتوحة.. وحين سألت الملحن (محسن فرحان) عنها قال هي بمثابة البيان الأول للانقلاب العسكري في اللحنيَّة العراقيَّة... نعم كانت جديدة من حيث البناء والشكل والمضمون، ولو تفحّصنا أغنية (تانيني) لفؤاد سالم فهذه قضيَّة أخرى.. وهنا استخدم الدرامز كصولو ثم استخدم في كلِّ مقطع موسيقى مختلفة واستخدم الهارموني (خطّين) بالموسيقى وكانت اللوازم الموسيقيَّة لها دور مكمل لبناء الأغنية حيث كانت اشبه بلوحة متكاملة.
وهكذا قدّم كوكب حمزة فنَّاً مغايراً للأغنية العراقيَّة السائدة منذ أربعينيات القرن الماضي وصولاً لسبيعنياته التي غيّر فيها مسار الأغنية، حتى وضعها في مصاف الأغاني التي تسمع من ثقافات مختلفة، وليست أغنية محلّيَّة خاصة.