مغتربو الوطن.. بين مشاعر الانتماء وتوجّس العودة

ريبورتاج 2024/04/04
...

 رحيم رزاق الجبوري

بات الحديث عن الغربة والاغتراب، أمرًا مألوفا في مجتمعنا. بفعل التحولات السياسية والحروب والاضطرابات المتعاقبة التي مرت على البلد. مما جعل الكثير من العراقيين للإقدام على هذه الخطوة. بالرغم من ضبابيتها وخطورتها ومستقبلها المجهول. والشواهد كثيرة على مرارة ما نسمعه من مهاجرين قضوا غرقا، وآخرين ألقوا في السجون، وبعضهم تعرض للعديد من المضايقات والابتزاز والسرقة وغيرها، ومنهم من صنع لنفسه كيانا خاصا به ورسم مستقبله عبر ظروف ملائمة توفرت له.

لكن طالما ما يفتح هذا الموضوع جرحا عميقا يسيل منه الكثير من الذكريات والآلام والقصص الحزينة، التي نسمعها ونقرأها من خلال مدونات المغتربين ويومياتهم، وشعورهم بالحنين والعودة لأحضان الوطن.


سرادق المجهول

يروي عباس الحسيني (شاعر ومترجم)، الذي عمل مصححا لغويا ومترجما ثم مديرا عاما في دار الفارس بعمان، ويقيم حاليا في ولاية أريزونا-أميركا، عن رحلة اغترابه، قائلا: "منذ ولادتي عام 1968 في مدينة الديوانية وحتى عبور كبوات الحروب وأنا ما زلت أردد ذات العبارة: من هو العراق؟ وأذكر تلكم السنين حيث لا يغاث فيها الناس ولا يسمع لهم أنين، إنها محرقة التسعينيات، حيث انبرى الجميع للحاق بركب المغادرين، تركت جسر الديوانية عام 1998 عند آخر صباح متوجها إلى الأردن، بسيارة أجرة والدفع آجلا، حيث أخذت الدولة نصف مليون دينار عراقي ثمنا لتحرير رقبة المغادر؟ وحيث التحول من مناخ العائلة والأصدقاء، وأحلام الأرض الأولى إلى حيث المضي في سرادق المجهول، وكمن يغرق كي يسعفه غريق آخر، فقد قادتني خطاي إلى صديق طفولة نصحني بمراجعة مكتب الأمم المتحدة في عمان حالا ودون أدنى تردد، وكانت معي حقيبة قديمة كبيرة الحجم من منشورات صحافية ونقوش فنية مع إنجازات متواضعة في الدراسة والبحث واحتراف فنون بعينها". 

إعادة فهم العالم

ويضيف الحسيني، بالقول: "كنت أدري أن الطريق سيمضي بنا إلى كنايات الشمس حيث ترتفع طائرة بنا، كمجموعة من اللاجئين المتجهين إلى الولايات المتحدة الأميركية، بعد سنين من الانتظار المر، وحيث الانتقالة الكبرى من العضوي إلى اللا عضوي، من صميم الأرض إلى بدايات الاغتراب أو بناء حياة جديدة، وقد لا يبدو الأمر هينا أو سهلا على الإطلاق، لكن واقع الاغتراب يفرض على اللاجئ أن يؤسس له وطنا، وطنا من الدفاتر والقراءات وإعادة فهم كل شي. نعم هذا هو الدرس الأول والأعظم في الاغتراب، في أن يكون التفكير ظاهراتيا على حد وصف هيدغر، الفيلسوف الألماني الذي لمح إلى الواقع في ما يظهر لنا تحت البصيرة، لكن الأمر سرعان ما يتجاوز ظاهراتية هيدغر إلى أقصى محاولات إعادة فهم العالم والوعي المحدث والإنسان الذي يموت وينطق في داخلنا، وصولا إلى مسارات العقيدة والتاريخ والتواصل الحميم مع الجذور الأولى. لم يكُ في ظني المتواضع أن الاغتراب مجرد اصطلاح وأن العالم سرعان ما تحول إلى قرية كونية تتواصل ثانية بثانية فيما بينها، إلا أن العراق بقي فرادة عصية على المحو، لأن العراق لا يشبه أي وطن فقير أو غني، ولا يشبه أية بقعة مزهرة كانت أم مجدبة، العراق لا يشبه إلا نفسه، والذي جعلنا لا نشبه إلا عراقنا، في التنظير والتفكير والحنين، وربما في الحب أيضا".


ذاكرة ملغاة

فيما يقول د. محمود شوبّر (فنان تشكيلي): "لم يخطر لي يوما من الأيام أن أكون من المحسوبين على الاغتراب والمغتربين، وأنا الذي أتجول في أزقة الحلة وكل مرة أرى أنني أطأ تلك الأماكن لأول مرة؟

ويبدو أن هذا البيت الشعري الذي حفظته عن والدي ما زال يشتغل (كيميائيا) معي: (مشيناها خطى كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطى مشاها). وأرى أن الحياة في المهجر؛ هو العيش الذي يحتاج إلى ذاكرة ملغاة، وقلب مدجج بالغلظة أو القسوة ليكون جاهزا لمواجهة الليل الذي ما أن يسدل أستاره حتى يتبين لي الخيط الأسود من الخيط (الأسود) بكل إرهاصات الحنين واللهفة إلى وجوه ألفتها وأماكن تألفني".


مشاعر لا تموت

ويكمل حديثه بالقول: "بالنسبة لي أكون في مرسمي الذي أرى به ملاذا آمنا من كل ما ذكرت. وأجد بهذا متعة الإنجاز ومتعة البحث الذي تعادل في غالب الأحيان الكثير مما ذكرته باقتضاب. ويبقى الإنسان السوي يرى أن الهواء الذي كان يتنفسه هو الأنقى وطرقات مدينته هي ملكه حتى الأشجار كل الأشجار ثمارها له. فحين تموت المشاعر ينتهي الاغتراب ولكن من أين لك أن تاتي بالموت لتلك المشاعر. البقاع النائية عن الوطن لا تغني ولا تسمن من لهفة اعتدت عليها منذ مدرستي الابتدائية، فبالرغم من هذا الشيب الذي غزا روحي قبل شعري لا زلت أرى الدهشة على ملامح وجهي؛ كلما عبرت على الجسر القديم، وما زلت أنظر لشط الحلة هو الموصول بأنهار الجنة التي تفيض باللبن والعسل وخمرة لذة للشاربين. فلنا وطن جميل ولكن لا نملك حظا أن نكون بين حناياه من المقربين".


تعريف الوطن

راجحة عبود (صحفية في راديو مونت كارلو الدولية - باريس) تتحدث عن الاغتراب، وتفاصيل أخرى، إذ تقول: "عندما نفقد الأمان في أوطاننا يجب أن نبحث عن أوطان أخرى أكثر أمانا. وأينما يتوفر الأمان يكون وطنا؛ إذا ما عرفنا الوطن أنه قطعة أرض يعيش عليها مجموعة من البشر. هكذا كانت فكرتي عن الوطن قبل الاغتراب، وبعده اكتشفت أن الوطن ليس هو الأرض بل هو عمرنا الذي مر في هذه البقعة من الأرض، فهو الأم والأب والأخوة والأهل والأصدقاء، وهو المكان الذي تتنفس فيه الحب والعلاقات الصادقة، هو الدفء وحضن الأم وحنان الأب والأخ والأخت. وعندما تحاط بهؤلاء فهذا هو الوطن أينما تكون، وغير ذلك هو مساحة أرض أينما نضع قدمنا ممكن نطلق عليها وطنا؛ ولكن أي وطن وهو خال من الأحبة". 


مسارات الاغتراب

وتشير عبود، إلى وجود مسارين للاغتراب (سلبي وإيجابي) فالسلبي: هو أنك تترك وراءك كل علاقاتك الاجتماعية والإنسانية وارتباطك العائلي ووظيفتك لتبدأ من جديد في تكوين مجتمع جديد لك وتعود تلميذا إلى مقاعد الدراسة وتلميذا في الحياة. فتبدأ باللغة وتنتهي بتطوير المهارات للحصول على عمل والتعرف على أصدقاء جدد. فهل هناك شيء أصعب من هذه البدايات الجديدة وخاصة بعد عمر الأربعين، ومن لم يستطع تخطي هذه العقبة فبداية طريقه الفشل في الاغتراب. 

أما الجانب الإيجابي: هو تجربة ومغامرة تختبر بها قدراتك وتجاربك، تختبر بها صبرك وذكاءك، وتتعرف على مجتمع آخر وطرق تفكير أخرى وتجارب جديدة وأسلوب حياة جديدة، وهنا تكون بين خيارين؛ أما أن تتقوقع على نفسك وتنسحب، وأما أن تتأقلم مع أفكار وسلوك وعادات وثقافة المجتمع الجديد، والتأقلم لا يعني التخلي، وإنما إضافة أخذ وعطاء وتأثر وتأثير، أي تريهم الجانب المشرق من ثقافتك، من تفكيرك، من خطوات نجاحك، ولكن يبقى الحنين متجددا للأهل وللأصدقاء وللذكريات وللعلاقات الإنسانية، وكذلك يبقى الحلم بالأمان في أوطاننا وقد تكون العودة".


منأى جغرافي

الشاعر والإعلامي (وديع شامخ) لا يعتبر البعد المكاني غربة بقدر ما هو منأى جغرافي، ولا يرى نفسه مغتربا أو غريبا في مفهوم المعادلة القلقة بين الوطن والمهاجر؛ بل كائنا عاديا أو مبدعا. ويضيف شامخ، بالقول: "هنا يحضر المنطق القائم على تقسيم المهاجرين إلى صنفين، مهاجر لظروف إنسانية؛ وهذا يعني مفهوم الاغتراب، ومبدع طائر ومهاجر أيضا. فالأول مهموم في الغربة اجتماعيا، والثاني مهموم في الغربة وكيفية استثمارها كفضاء نوعي جديد متاح لإثراء تجربته الإبداعية.  وهذا الفصل ليس قصرا إنسانيا بل هو توصيفا موضوعيا للهدف القائم بين الوسيلة والنتيجة".


مفهوم الغربة

ويؤكد رئيس تحرير مجلة ألف ياء، المقيم في أستراليا على إعادة تأسيس مفهوم الغربة من وجهة نظره، ويصفها بالفضاء الكبير للحوار مع الآخر، ونعمة الخلاص من وحدانية الحياة وتعسف الرمادية فيها، ويكمل: "أن الهروب من الفخ هو قيمة بنيوية على الإشارة إلى حرية الكائن في التفرد، في النأي المكاني، وليس نزع جلد الانتماء لروح المكان وزمانيته. وأن الهارب من الفخاخ، يمارس الطيران في محيط الزمانية الكبرى (ماض، حاضر، مستقبل) فيما يقتصر المهاجر الغريب على اللجوء إلى مجتمعات تشابه ملامحه ويكون معها (كانتونات) دينية، طائفية، سياسية، إلخ. بينما هجرة المبدع هي رحلة البحث عن سؤال الوجود وتأسيس فضاء إبداعي لا يتخلى أبدا عن ملامح لغته وجمالها وبيان رسالتها، كما فعل جبران خليل جبران، وجماعة أبولو، وما أنتجه السياب في منفاه القسري على الخليج، وكذلك سعدي يوسف وسركون بولص والجواهري والبياتي". 


لا قطيعة مع الوطن

ويختم، شامخ بالقول: "إذن الغربة أو الهجرة لا يُفهم معناها بوصفها قطعا وعقوقا مع الوطن، إلا بفهم وجهة نظر المهاجر والمتغرب والذاهب إلى خارج البلاد. أي أن المسألة غاية في النسبية أيضا. 

وعني فقد أثريت تجربتي في فضاء الحرية وأنتجت 17 كتابا في حقول غاية في التنوع والثراء، شعرا ورواية وتاريخا وتحقيقا وحوارات؛ بينما لم أنتج في وطني سوى مجموعتين شعريتين".