"كان يا ما كان في قديم الزمان"... هكذا يبدأ الحكواتي عبد الواحد إسماعيل قصته في كل ليلة رمضانية في أحد مقاهي الموصل حيث يشهد هذا التقليد الذي راج في الستينيات زخما متجددا إلى جانب أنشطة ترفيهية أخرى تحيي ليالي رمضان، موطّدة التلاحم الاجتماعي في العراق.
وبين أزقة الموصل القديمة التي لم تنفض عنها غبار الحرب بعد، يجوب إسماعيل (70 عاما)، وهو فنان مسرحي معروف بين أبناء المدينة، مناطق عدة ليقص بأسلوبه الخاص حكايات تاريخية وشعبية في الشهر الفضيل، تلقى آذانا تتوق للعودة إلى أيام الزمن الجميل.
ويقول الحكواتي أو الـ"قصخون" كما يسميه أهل الموصل مرتديا دشداشة طويلة مع كوفية صفراء على الكتفين وطربوش أحمر على الرأس "عشت عصوراً عدة، فأحاول نقل صورة جميلة خاصة للشباب".
يجلس إسماعيل على أريكة عالية في ساحة خصصت لهذا الغرض، وفي يده المايكروفون، ويبدأ بقص رواياته بأسلوب تمثيلي جميل، ولكن بأنفاس متقطعة لكبر سنه.
ولطالما اشتهرت شخصية الحكواتي في القدم، بنقل الأخبار والسير التاريخية التي شكلت وعيا وثقافة لدى المجتمعات في تلك المرحلة الزمنية.
لكن إسماعيل يسعى اليوم إلى ربط الماضي بالحاضر. فيقص مثلا سيرة عنترة وعبلة الشهيرة في الموروث العربي، ويحاول ربطها مع ما يلهي الشباب اليوم من ألعاب إلكترونية، كالـ"بوبجي".
بدأ العصر الذهبي للحكواتي قبل قرون عدة أيام الحكم العثماني، لكنه راح يندثر في الستينيات مع ظهور وسائل أخرى للمتعة من الراديو إلى التلفزيون.
ويقول أحد الحاضرين قيس قاسم (71 عاما) "عشت الليلة لحظات من التاريخ الجميل".
ويضيف قاسم الذي يضع عكازيه إلى جانبه "عندما كنا أطفالا، كنا نجلس في الزقاق في ضوء الفانوس، ونستمع إلى حكايات عجوز موصلية تتقن سرد القصص".
أما اليوم، فقد تغيرت الأزمان، بحسب وصفه، و"باتت التقنيات الحديثة حاجزا بين الماضي والحاضر".
كل تلك التجمعات تصب في خانة إعادة الأواصر المجتمعية التي بدأت تتلاشى في العراق على مدى أربعة عقود من الحروب المتتالية.
ويقول الباحث الاجتماعي سعد أحمد إن هذه محاولات "لتوظيف ثقافة الماضي في معالجة مشاكل اجتماعية أفرزتها الظروف".
ويشدد أيضا على أن "إحياء جانب من الطقوس الرمضانية المنقرضة، يؤكد أن التقدم التكنولوجي لن يطغى أبدا على جمال الماضي".