يحلُّ علينا في الأسبوع المقبل عيد الفطر المبارك، وسيفرح الصائمون بالعيد تعبيراً عن شكر المسلم الذي أنعم الله عليه بإتمام صيامه.
ومع مباركتنا لمن صامه طعاماً وشراباً وقلباً ولساناً.
نشير الى أنَّ العيد هو أجمل مناسبة للتسامح بمعناه الديني والاجتماعي؛ ذلك أنَّ المفهوم الشعبي يعدُّ التسامح ضعفاً أو خوفاً أو قلة حيلة أو مذلة أو مهانة أو تنازلاً عن حقوق، بينما الإسلام يعدُّه فعلاً نابعاً من صفاء القلوب وما غلب عليها من الحب والعطف والرحمة والحنان، وسلوكاً صادراً عن قوة إرادة وعزيمة صادقة في الانتصار على النفس والذات بكل إيجابيَّة بعيداً عن السلبيات وما يصاحبها من غضبٍ وقسوة وعدوانيَّة، وانه خلقٌ عظيمٌ وأفضل من الأخذ بالحق والانتصار للنفس لقوله تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
وسايكولوجياً، ستندهشون حين تدركون أنَّ التسامح هو للروح كما الصابون للجسد، يغسلها من أوساخها ، وأنَّ من لا يقدم عليه يسكنه اليأس ويتعفن من الداخل بنقيضه، الكراهية.
ولهذا فإنَّ الأمم المتحدة اعتمدت التسامح مبدأ إنسانياً وحددت يوماً دولياً (16 تشرين الثاني) لتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون في ما بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب.
والمفارقة أنَّ الدين الإسلامي قد سبقها وسبق الحضارة المعاصرة بألفٍ وخمسمئة عامٍ في دعوته الى التخلي عن رغبتنا في إيذاء الآخرين لأي سببٍ حدث في الماضي، وأنْ نفتح أعيننا لرؤية مزايا الناس بدلاً من أنْ نحكمَ عليهم ونحاكمهم أو ندين أحداً منهم.
وكان النبي الكريم قد ضربَ أروع المثل وأنبل المواقف في التسامح يوم فتح مكة وقال للذين حاربوه: من دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، مع أنَّ أبا سفيان كان من ألدّ أعدائه.
والتّسامح الذي دعا إليه الأنبياء والمصلحون، لا يعني فقط العفو عند المقدرة، وعدم ردّ الإساءة بالإساءة، والترفّع عن الصّغائر، بل انه يعمل على السُّموّ بالنّفس البشريَّة إلى مرتبة أخلاقيَّة عالية، وله أهميَّة كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك المجتمعات، واحترام معتقدات وقيم الآخرين، والقضاء على الخلافات والصّراعات بين الأفراد والجماعات، ولهذا فإنَّه يعدُّ ركيزة أساسيَّة لحقوق الإنسان، والديمقراطيَّة والعدل، والحريات الإنسانيَّة العامّة.
يقوم التسامح على مسلمات فلسفيَّة بخصوص الطبيعة البشريَّة، أولها: لا يوجد إنسانٌ معدومُ الخير، وثانيها: لا يوجد إنسانٌ لا يخطئ، وثالثها: إنَّ الإنسان مجبولٌ على الحب؛ ما يعني أنَّ من يسيء لغيره قد يعيش ظروفاً صعبةّ أدّت به الى أنْ يسيء لمن حوله، لكنّه لا يجد من يعذره ويتسامح عن
زلّته.
وما لا يدركه كثيرون أنَّ التسامح لا يعني فقط أنْ نسامح آخرين على أخطاءٍ ارتكبوها بحقنا، بل يعني أيضاً أنْ نسامحَ أنفسنا على أخطاءٍ ارتكبناها بحقها وأنْ نخلّصها من اللوم والإحساس بالخزي والشعور بالذنب الذي يصلُ أحياناً الى تحقير الذات.
وسايكولوجياً، يعني التسامح إيقاظ مشاعر الرّحمة والتّعاطف والحنان، الموجودة أصلاً في قلبك، وإزاحة مشاعر الغضب والكراهية والانتقام نحو من أساء إليك.
وفسلجياً يعني التسامح أنَّ الجهاز العصبي للإنسان يكون في حالة التسامح مرتاحاً، لأنَّ الدماغ يكون مرتاحاً جداً في حالات الحب، بينما يكون مشوشاً متوتراً (مخبوصاً) في حالات الكراهيَّة.
أعرف أنَّ بينكم من يقول: كيف يمكن أنْ أسامحَ من أخطأ بحقي أو تجاوز عليّ؟.
وأعرف أنَّ بين العراقيين من هو (أنفة) ولسان حاله يقول (والله لو يموت ما أسامحه) و(هو شنو حتى أسامحه).
لكنك لو فكرت كيف ستكون مرتاحاً نفسياً إنْ بادرت أنت وكيف سيكون ممتناً لك من أساء إليك، لشكرتنا وفعلت.