الانتخابات المحليَّة التركيَّة وخيبة أردوغان

قضايا عربية ودولية 2024/04/04
...

• روبرت إيلس

• ترجمة: أنيس الصفار


في الانتخابات المحليَّة التي جرت يوم الأحد الماضي صوَّت أبناء الشعب التركي بجيوبهم. والانتخابات البرلمانيَّة والرئاسيَّة التي أجريت في شهر أيار الماضي كانت أبعد ما تكون عن العدالة، لأنَّ الفائز فيها كان من الممكن أن يكون عمدة مدينة إسطنبول صاحب الشعبية الكبيرة “أكرم إمام أوغلو” الذي استبعد من المشاركة في شهر أيار، قبل انطلاق السباق الانتخابي، على أساس تهمة باطلة هي “إهانة” اللجنة العليا للانتخابات في تركيا. سبق لإمام أوغلو أن هزم حزب الرئيس أردوغان “حزب العدالة والتنمية”، مرتين من قبل. أولاهما في الانتخابات المحلية في 2019 عندما كان مرشحاً عن حزب المعارضة الرئيس “حزب الشعب الجمهوري” وهزم مرشح أردوغان المختار “بن علي ييلدرم” بـ 13 ألف صوت. لكن نتيجة الانتخابات ألغيت في أعقاب شكوى تقدم بها حزب العدالة والتنمية. أما المرة الثانية فقد كانت عند إجراء انتخابات الإعادة في شهر حزيران حين هزم إمام أوغلو ييلدرم للمرة الثانية بحصوله على 54 % من الأصوات مقابل 45 % لصالح ييلدرم. 

كانت هذه ضربة قاسية الوقع على أردوغان الذي ابتدأ حياته السياسية رئيساً لبلدية إسطنبول في العام 1994. وفي العام 2001 انشأ صندوقاً لتمويل حزب العدالة والتنمية وهكذا حقق النصر في الانتخابات العامة في 2002. تبعاً لذلك، وإلى حين تحقق النصر لإمام أوغلو، بقي حزب العدالة والتنمية محتفظاً بمدينة إسطنبول منذ 2004. جاء الفوز بنحو خمس تعداد الناخبين في تركيا و30 % من الناتج المحلي الإجمالي التركي آنذاك بمثابة مصداق لمقولة “من يكسب إسطنبول يكسب تركيا”. في شهر أيار الماضي حيل بين إمام أوغلو والترشح واستبدل به زعيم حزب الشعب الجمهوري آنذاك “كمال قليجدار أوغلو” الذي كان أردوغان مطمئناً إلى قدرته على إلحاق الهزيمة به. نتائج يوم الأحد، التي منحت إمام أوغلو 51 % من الأصوات مقابل 40 % لمنافسه مراد كوروم من حزب العدالة والتنمية لا تشخص كحقيقة وحيدة منفردة. ففي العاصمة أنقرة ألحق رئيس البلدية الحالي “منصور يافاش”، وهو من حزب الشعب الجمهوري، هزيمة ساحقة بمنافسه من حزب العدالة والتنمية بحصوله على 60 % من الأصوات. بذا ضمن حزب الشعب الجمهوري أربع عشرة مدينة من أصل ثلاثين، بينها المدن الأكبر مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير وبورسا وأنطاليا وأدنه، مقابل اثنتي عشرة منطقة حصل عليها حزب العدالة والتنمية. حقق حزب الشعب الجمهوري انتصارات في خمس وثلاثين مقاطعة من مقاطعات تركيا الإحدى والثمانين (مقابل 24 مقاطعة لحزب العدالة والتنمية)، وحصد إجمالاً 37 % من الأصوات مقابل 35% حصل عليها حزب العدالة والتنمية. نظرة واحدة إلى الخارطة الانتخابية تؤكد لنا أنَّ انتصارات الحزب الجمهوري قد تركزت في غرب تركيا ومناطق سواحلها الجنوبية وسواحل بحر ايجه، في حين تركزت انتصارات حزب العدالة والتنمية في منطقة البحر الأسود وهضبة الأناضول. مقارنة بذلك كانت انتصارات حزب المساواة والديمقراطية الشعبي المؤيد للكرد مركزة في الجنوب الشرقي. في خطابه من شرفة مقر حزب العدالة والتنمية في أنقرة عبّر الرئيس أردوغان عن تقديره وثقته بأنَّ الفائز الأول في الانتخابات كانت الديمقراطية التركية، كما أقرّ بأنَّ حزب العدالة والتنمية وحليفه “حزب الحراك القومي” لم يحصلا على النتيجة المرجوة وأنهما قد خسرا شيئاً من مكانتهما، على حد تعبيره. قال أردوغان إنَّ أجهزة الحزب سوف تعكف على تقييم النتائج ، ثم اختتم بنبرة متسمة بالتفاؤل قائلاً إنَّ النصف الثاني من العام الحالي سوف يشهد نتائج اقتصادية أفضل، لاسيما في ما يتعلق بالتضخم. 

فقبل انتخابات أيار من العام الماضي كانت قيمة الدولار الواحد في تركيا تعادل 20 ليرة وذلك بفعل التدخلات عبر الأبواب الخلفية، أما الآن فقد بلغت 32 ليرة. حملة أردوغان اللاتقليدية ضد أسعار الفائدة، التي يعتبرها “أبا الشرور كلها وأمها” على حد تعبيره، أدت إلى رفع المكابح عن التضخم الجامح وسعر فائدة قياسي بلغت نسبته 8,5 %. 

اليوم، بعد انتخابات أيار الماضي، ومع إعادة تولي محمد علي شيمشك منصب وزير المالية، أعيد رفع السعر إلى 50 % وبذا بدا تعيينه كما لو كان إغلاق باب الإسطبل بعد هروب الحصان منه بوقت طويل. جعل أردوغان من النمو الاقتصادي المستمر أساساً وقاعدة لنجاحه الانتخابي، لكن المحلل الاقتصادي الأميركي “جيسي كولومبو” حذر قبل عشر سنوات من أنَّ الاقتصاد التركي القائم على مبدأ “الازدهار أو الكساد” المعتمد على استمرار تدفق الأموال الأجنبية الساخنة وانخفاض أسعار الفائدة المبالغ به كان منحدراً نحو الركود.

من العام 2019 إلى العام 2020 استخدم ما يقدر بـ 128 مليار دولار لدعم الليرة التركية، كما أنفقت 128 مليار دولار أخرى، وفقاً لحسابات بلومبرغ، خلال الفترة من كانون الأول 2021 إلى آذار من العام الماضي. هذا كله أفضى بالبنك المركزي التركي إلى احتياطيات مستنفدة من النقد الأجنبي وتبادل الصفقات مع قطر والصين وكوريا الجنوبية ودولة الإمارات لتجنب الانهيار.  لكن بدلاً من الخضوع لوصاية صندوق النقد الدولي انطلق أردوغان في جولة خليجية خلال شهر تموز متوقفاً في ثلاث دول هناك بحثاً عن فرص تجارية واستثمارية. وفي شهر تشرين الأول فعل محمد شيمشك الشيء نفسه، وهذا هو السبب الذي جعل الاتفاقيات التجارية عنصراً مهماً في عملية إصلاح العلاقات مع اليونان ومصر مثلاً. 

في شهر آذار رفعت وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية تركيا إلى مستوى “بي زائد”، مع توقعات إيجابية مستقبلية، لكنها حذرت مع ذلك من أنَّ 226 مليار دولار بصفة دين خارجي مستحق السداد على مدى الأشهر الاثني عشر المقبلة، سوف يجعل تركيا بموضع ضعف إزاء التغيرات التي تطرأ على معنويات المستثمرين. 

قبل الانتخابات المحلية تعهد أردوغان بجعل تركيا أحد أكبر عشرة اقتصادات في العالم حين قال: “سوف نضمن أن يحصل كل فرد من أبناء شعبنا على نصيبه الذي يستحقه.” رغم ذلك، وفي الوقت ذاته، اعترف في محفل آخر بأنَّ الزيادات الأخيرة التي طرأت على الحد الأدنى للأجور ورواتب المتقاعدين قد أخفقت في مواكبة التضخم”. 

لقد ازداد التضخم السنوي في تركيا وفقاً للتقدير الرسمي إلى نسبة 67 % في شهر شباط، ولكنه في واقع الأمر ارتفع بنسبة 122 % وفقاً لتقييم إحدى الجماعات المستقلة تدعى “إيناغ”. 

في العام 2023 ازداد العجز في الميزانية التركية بمقدار سبعة أضعاف مقارنة بالسنة التي قبلها والسبب بلا شك هو الهبات والمنح الحكومية التي كان يقصد من ورائها زيادة التصويت في انتخابات شهر أيار البرلمانية والرئاسية. العامل الآخر هو الزيادة القياسية في تخصيصات مديرية الشؤون الدينية والصندوق التقديري للرئيس. 

ملايين العائلات التركية قد دفع بها إلى أحضان الفقر والفاقة وباتت تواجه صعوبة في تغطية تكاليف احتياجاتها الأساسية. 

لا ريب أنَّ سوء إدارة الاقتصاد كان هو القوة الدافعة وراء النتائج الانتخابية المحلية. لكن إلى أي مدى سيؤثر ذلك في إحداث التغيير السياسي؟ هذا سؤال سوف يبقى مفتوحاً.

• عن مجلة “ذي ناشنال إنتريست”