الفكر التاريخي لدى محمد باقر الصدر

آراء 2024/04/08
...

 عبد الله حميد العتابي

على سبيل المثال؛ اعتقد السيد الصدر بأن هناك شروطا أساسية لإقامة بناء تاريخي محكم، فيحددها بقوله: إذا كان التحرر من المرتكزات، والأناة في الحكم، والحرية في التفكير، شروطاً للحياة الفكرية المنتجة، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ومهما يكن موضوعها، فهي أهم الشروط الأساسية لإقامة بناء تاريخي محكم لقضايا أسلافنا

إن الهدف الأسمى من دراسة التاريخ، هو أخذ العبرة من الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، فللتاريخ أهمية كبيرة في صنع مستقبل الأمة، لذلك يجب على الأمة أفراداً ومؤسسات أن تمتلك الحد الأدنى من المعرفة والوعي في التاريخ، وتوظفه خير توظيف في رسم المستقبل، فالذي لا يفهم تاريخه، ولا يحسن قراءته، ومن لم يتعلم من أخطاء الماضي، فإنه حتماً سيتخبط في طريقه، وسيقع لا محالة في أخطاء كان الأحرى أن يتجنبها لو أنه درس التاريخ جيداً.

آمن السيد محمد باقر الصدر بأن تعلم التاريخ وتدبر دروسه واجب على الأمة أفراداً وجماعات ومؤسسات، فالتاريخ مليء بالدروس، ودراسته تكون بهدف التعلم من تلك الدروس.

نتلمس الفكر التاريخي لدى السيد الصدر من خلال كتاباته في بواكير حياته وهو في عمر السابعة عشرة، في كتابه (فدك في التاريخ)، ورغم أن السيد الصدر رجل فقه بالدرجة الأولى، لكن الحقيقة أن فكره التاريخي لا يقل أهمية عن آراء أي مؤرخ متخصص. 

فعلى سبيل المثال؛ اعتقد السيد الصدر بأن هناك شروطا أساسية لإقامة بناء تاريخي محكم، فيحددها بقوله: إذا كان التحرر من المرتكزات، والأناة في الحكم، والحرية في التفكير، شروطاً للحياة الفكرية المنتجة، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ومهما يكن موضوعها، فهي أهم الشروط الأساسية لإقامة بناء تاريخي محكم لقضايا أسلافنا.

فالموضوعية إذن وعدم التسرع في إصدار الأحكام، مع توفير جو من الحرية للفكر والابتعاد عن القيود، هي ما يجب أن يتوافر للمؤرخ لكي يكون بناؤه التاريخي محكما، على وفق رؤى السيد الصدر، ولو طبّق الباحث تلك الشروط فسوف يحصل على فوائد كثيرة، كما يشير إلى ذلك السيد الصدر بقوله: ترتسم فيه خطوط حياتهم [ يقصد المسلمين الأوائل ] التي صارت ملكاً للتاريخ، ويصوّر عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم، يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامة، أو في حساب الحياة الخاصة، التي يُعنى بها الباحث، وتكون مداراً لبحثه، كالحياة الدينية والأخلاقية والسياسية. 

أما عن الهدف من دراسة التاريخ لدى السيد الصدر، فقد قال: وأما إذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيرا كان أو شرا، ولا لنحبس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص، ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمد من وحيها الأخاذ تاريخ أجيالنا السابقة، فليس ذلك تاريخا لأولئك الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوما ما، وكانوا بشرا من البشر تتنازعهم ضروب شتى من الشعور والإحساس، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشر، بل هو ترجمة لأشخاص عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا إلى الآفاق العالية من الخيال.

 فالهدف من دراسة التاريخ كما يراه السيد الصدر، هو استلهام عواطفنا وموروثاتنا، وعلى أساس وحيها نستمد تاريخنا، فهو ترجمة لأشخاص عاشوا في أذهاننا، في خيالنا. 

هذا هو الهدف الصحيح في رأي السيد، وليس الهدف من دراسة التاريخ تسجيل وقائع أو جمع فروض وإسقاط أخرى، أو اتباع منهج علمي.

هو يريد من المؤرخ كما فهمنا، أن يعيش عصر موضوعه بروحه وإيحاءاته وعاداته، وأفكاره السائدة، وعواطفه، كي نتمكن من رسم الشخصيات أو الأحداث الرسم الصحيح الدقيق. 

ولكي لا يتحول هذا المؤرخ إلى روائي، يضع السيد الشهيد ضوابط لذلك، فيقول: فإذا كنت تريد أن تكون حرا في تفكيرك، ومؤرخا لدنيا الناس، لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب، فضع عواطفك جانبا، أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك، فهي ملك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث، فإنه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك أن تكون أمينا، ليأتي البحث مستوفيا لشروطه قائما على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج. 

فعلى المؤرخ إذن أن يُبعد عواطفه أثناء معالجة البحث، ويبعد تفكيره الخاص وأفكاره المتعلقة به أثناء معالجته، لكي يصل إلى استنتاجات سليمة.

كما يلفت السيد الصدر نظر المؤرخ إلى وجوب ربط انطباعاته عن الموضوع الخاص، بالبحث بدنيا الناس، ولا يربط الموضوع بانطباعاته، فيقول في هذا الشأن، إن للتاريخ سننا وضوابط وقوانين، وإن القرآن الكريم عامر بتلك السنن التاريخية، وإن القرآن بيّن هذه الحقيقة بأشكال مختلفة وأساليب متعددة. 

تميّز أسلوب السيد الصدر بالطابع الأدبي في بعض كتاباته التاريخية، فاهتم بالصياغة الأدبية ليضع القارئ في موقع الملامسة مع الواقع، كما تميّز أسلوبه بالبلاغة، وعندما يطرح فكرة فهو قادر على توصيلها. 

ونلاحظ اعتماد السيد الصدر أسلوب المقارنة لإثبات صحة وجهة نظره، وللسيد الصدر قدرة على تصوير الموقف التاريخي وتقريب الموضوع إلى الأذهان بصورة دقيقة محللة. 

كما يتميز أسلوب السيد الصدر بالتجديد والتغيير والإبداع، وحينما يشير إلى مصطلح (العمل التاريخي)، كما استخدم لفظ (الساحة التاريخية)، وهي (عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون). 

وبقي أن أقول إن السيد الصدر يتميز في كتاباته بعدم التحيز المذهبي، رغم انتمائه للمذهب الشيعي، بل إنه يأخذ بآراء المذاهب الأخرى. وينتقد السيد الصدر نظرية العامل الواحد في التاريخ، والمعروف أن كثيراً من فلاسفة التاريخ قد اتجهوا في تفسير المجتمع والتاريخ بعامل واحد، هو المؤثر في دنيا الإنسان والمؤثر في عمليات التاريخ؛ أما العوامل الأخرى فهي جانبية تابعة للعامل الرئيس في تطورها واستمرارها. 

تميّز السيد الصدر بالأمانة العلمية ونقل فكرة الخصم بأفضل صورة وبدقة ومن دون تحريف، كما اعتمد السيد الصدر رضوان الله عليه في كتاباته التاريخية على التحليل بشتى أنواعه، وكان منطقياً لكي يقنع القارئ.