الصدر وتأسيسات اللغة

منصة 2024/04/08
...

جواد علي كسار



في حدود متابعة رصدية فاحصة على مدار أربعة عقود ونصف، لم أعثر على من كتب أو أشار إلى المنجز اللغوي للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، مع أنه تناول الشأن اللغوي في «فلسفتنا» بادئ الأمر عند نقاش مرتكزات الماركسية الفلسفية في مبحث الإدراك، ثمّ طوّر النقاش ورفع بناءه درجات في «اقتصادنا» عندما درس نظرية المنعكس الشرطي لبافلوف، قبل أن يعرض في بحثه الأصولي إلى نظريته الخاصة الموسومة، بنظرية «القرن الأكيد» هذه النظرية التي قرأنا جذورها الأولى في «المعالم الجديدة للأصول» لتكتسب صيغتها الأدقّ في ثلاثية الصدر «دروس في علم الأصول» بعد أن مرّت طبعاً ببحث علمي عميق ورصين في دروسه الأصولية للبحث الخارج.

ليس من وراء هذا المقال أي دافع أو ادّعاء إبداعي، أبعد من الإشارة والتنبيه إلى المنجز اللغوي للصدر، ولاسيّما نظرية القرن الأكيد، مقرونة بإيماءات مقارنة عجلى مع كبرى نظريات التراث الإسلامي وأبرز نظريات اللسانيات الحديثة؛ بالرغم من قناعتي بحاجة هذا المنجز لدراسات وصفية بيانية، ومعيارية ومقارنة، تصلح أن تكون غرضاً لواحدة أو أكثر من أطاريح الدراسات الجامعية العليا، أو البحوث الفكرية المعمّقة؛ وغاية ما أرجوه أن يتحوّل هذا المقال إلى محض إشارة عامة لكنها عريضة ونافذة لفكر الصدر في هذا المجال.

نظرية المنعكس الشرطي

اتجه الجانب الأكبر من كتاب «فلسفتنا» لمحاججة الماركسية الفلسفية، عبر مناقشة المادية الديالكتيكية ومرتكزاتها المعرفية والفكرية، وقد كان تحليل الإدراك الإنساني هو المحطة الأخيرة من هذه الجولة.

استندت الماركسية الفلسفية في ما استندت إليه من تبرير مفهومها المادّي المحض للفكر والإدراك، وإسباغ الطابع العلمي عليه؛ إلى فرضية الاستجابة الشرطية للعالم الوظائفي الروسي ايفان بافلوف (1849ـ 1936م) هذه الفرضية التي حوّلها بالتراكم التجريبي حول لعاب الكلب وأسلوب تجاوبه، إلى نظرية الفعل المنعكس الشرطي، واتخذت الماركسية من معطيات تكرارها ونظامها الإشاري، ذريعة لتفسير الحياة العقلية برمتها على أساس الأفعال المنعكسة، وأن عملية الإدراك والتفكير ما هي إلا استجابات باطنة، يثيرها منبّه خارجي، بعد أن عدّ بافلوف اللغة واحدة من الإشارات الثانوية في النظام الإشاري الذي استنبطه.

وبذلك ذهبت الماركسية إلى أن ولادة اللغة، هي الحدث الأساس لنقل البشرية إلى مرحلة الفكر، إذ لم يكن من الممكن أن يكوّن الإنسان فكرة عن شيء، ما لم تقم أداة كاللغة بدور المنبّه الشرطي (فلسفتنا، 428ـ 433).

وبذلك أصبح «فلسفتنا» هو المضمار الأول لمناقشة الماركسية في «اللغة» عبر بافلوف، عندما انتهى الصدر في حصيلة النقاش، إلى أن الفكر ليس هو الواقع المباشر للغة كما ذهبت إليه الماركسية، بل اللغة هي أداة لتبادل الأفكار وليس لتكوينها، مستشعراً في أحد أدلته البداهة الإنسانية، في ما نواجهه جميعاً حين نفكر بشيء، ونتكلم بموضوع آخر، ما يدلّ برأيه على استقلال الفكر عن اللغة من حيثية المنشأ ليضع عبر ذلك البذرة الأولى لنظريته عن اللغة (فلسفتنا، ص 433ـ 436).

محطة «اقتصادنا»

تقدّمت تصوّرات الصدر عن اللغة خطوة إلى الأمام في كتاب «اقتصادنا» الذي تلا «فلسفتنا» في الصدور. ففي هذا الكتاب الذي خصّص القسم الأكبر من الجزء الأول منه لمناقشة المادية التأريخية، تناول الصدر مجدّداً تصوّرات الماركسية عن نشأة الفكر والإدراك الإنساني ومجمل النشاط الذهني والعقلي، عبر ما ذهبت إليه من أن اللغة هي البناء التحتي للفكر والإدراك، وأنها الواقع المباشر له، ولا وجود لأفكار عارية عن أدوات اللغة أو متحرّرة من المادّة الطبيعية. مرّة أخرى قد فعلت الماركسية ذلك بالاستناد إلى المعطيات الفسيولوجية لتجارب بافلوف على لعاب الكلب، وصياغته لفرضية المنبّه الشرطي، والاستجابة لهذا المنبّه، ما يعني برأي الماركسية تقدّم اللغة على الفكر وأن اللغة هي أساس الفكر، وهي التي خلقت من الإنسان كائناً مفكراً، لتكون النتيجة الأخيرة بالاستناد إلى هذه التجارب، أن الإنسان لا يمكنه أن يفكر بدون منبّه، لأن الفكر ليس إلا استجابة شرطية للمنبهات (اقتصادنا، ص 89ـ 95).

من موضوعية الصدر أنه لم يُنكر في النقاش، أن بعض الأصوات قد اقترنت في حياة الإنسان فعلاً، بمنبهات طبيعية وُلد على أساسها جزء من اللغة، لكن ذلك لا يعني أن اللغة سبقت الفكر، فضلاً عن تكون أساساً له، حتى مع التسليم لنتائج بافلوف وتجاربه الفسلجية. وإنما لجأ الإنسان إلى اللغة لتلبية حاجة وجودية حياتية، هي التواصل مع الآخرين، والتعبير لهم عن قناعاته ومواقفه وأفكاره (اقتصادنا، ص 95ـ 96).

هنا أطلت البذور الأولى لنظرية القرن الأكيد، عندما تحدّث الصدر بصراحة على أن الإنسان المفكر، لجأ إلى «القرن» بين بعض الأصوات والمنبّهات الطبيعية، وتكرُّر هذا «الاقتران» مراراً، لتتحصّل عنه ولادة المفردات الأولى للغة، عبر مواصفات الاسم والمعنى أو الدال والمدلول، بحيث راح لفظ «الماء» مثلاً يدلّ على معناه، والخبز على معناه، والأسد على معناه، وهكذا لتكون اللغة بهذا المعنى خاصية الإنسان، من دون بقية الموجودات (اقتصادنا، ص 96ـ 97).

محطة البحث الأصولي

لا أعتقد أن عالماً أو فقيهاً في حواضر العلم الديني الشيعية المعاصرة استطاع أن يقدّم ما قدّمه محمد باقر الصدر، للتثقيف على علم الأصول في نشأته ووظيفته وأدواره ومباحثه ومسوّغات دوامه. فقد فعل ذلك بيسر كبير في كتابه الذي صدر قبل نحو (60) عاماً، بعنوان: «المعالم الجديدة للأصول»، كما ركّز ذلك لاحقاً في كتابه المنهجي: «دروس في علم الأصول» عندما تحوّلت «المعالم» إلى الحلقة الأولى مع الإضافة والتطوير.

من بركات مشروع التيسير الصدري، أن المثقف المسلم العادي صار بمقدوره أن يدرك أن عملية الاستدلال الفقهي، تمرّ بثلاثة أنواع من الأدلة المشروعة، التي يجوز للفقيه الاستناد إليها وممارستها في استنباط الحكم الشرعي؛ هي الدليل اللفظي، والدليل البرهاني (القياسي بالمعنى المنطقي وليس الأصولي) والدليل الاستقرائي.

المقصود بالدليل اللفظي هو جملة ما ورد من النصوص في القرآن الكريم وسنة النبي والمعصومين. من هنا انبثقت حاجة الفقيه إلى مباحث اللغة في ممارسة الدليل اللفظي، وهو ما نهض به علم الأصول في الجزء الأول من مباحثه المخصّصة لمباحث الألفاظ (إلى جوار الجزء الثاني المختصة بحوثه بالأصول العملية).

حقيقة ودون ادّعاء، لم أختر عنوان المقال اعتباطاً، فالصدر في مباحثه الفكرية والعلمية لاسيّما الأصولية لا يتحدّث عن اللغة بشكلٍ جزئي وعابر، أو ينظر إلى مبحث «الوضع» وحده، وما يتحرّك في أفقه من بحوث مثل الظهور التصوري والتصديقي، والوضع التعييني والتعيّني، والحقيقة والمجاز، والاشتراك والترادف وما شابه، بل فعل ذلك وهمّه منصبّ على بلورة «نظام لغوي» بلوازمه التي تمرّ بنظريات نشأة اللغة، ونموّها وتطوّرها، وعلاقة اللغة بالفكر من جهة وبالواقع الاجتماعي والاقتصادي والأوضاع السياسية وتحوّلات الثقافة من جهة أخرى، وكلّ ما تحدّثت به نظريات الأقدمين من علماء المسلمين من عوامل على هذا الصعيد (يُنظر مثلاً: التفكير اللساني في الحضارة العربية) وما أضافته اللسانيات المعاصرة باتجاهاتها الكبرى من دي سوسور حتى نعوم تشومسكي (يُنظر في مستحدثات هذه التجليات: مجلة فصول القاهرية، محور: الإدراكيات، العدد 100، 641 صفحة من الحجم الكبير).

وليس ثمة ما هو أدلّ على هذه السعة من بحوثه المعمّقة في درسه للبحث الخارج، بالإضافة إلى ما كتبه بيده وهو يتحدّث عن «النظام اللغوي»، ويدرس اللغة في نطاق هذا النظام الذي يؤلف إطاراً كلياً للظاهرة اللغوية، كما نقرأ في الدلالة على ذلك، قوله مثلاً: «الاستدلال بالدليل اللفظي على الحكم الشرعي يرتبط  بالنظام اللغوي العام للدلالة» (المعالم الجديدة للأصول، ص 141) والكلام عن الدلالة هو كلام عن الوضع، والوضع يُعدّ من الحلقات التأسيسية الأولى لنظريات اللغة، أياً ما تكون هذه النظريات.

نظرية القرن الأكيد

عندما يُطلق لفظ الماء ينتقل ذهننا مباشرةً إلى السائل الخاص الذي نعرفه، وهكذا بالنسبة لأي مفردة لغوية أخرى، مثل السكر والشجرة والقلم؛ ليكون الأول بلغة الاصطلاح هو «اللفظ» والثاني هو «المعنى»، أو الأول هو «الدال» والثاني هو «المدلول» إذ يدلّ اللفظ على معناه، والدال على مدلوله.

بيدَ أن السؤال الذي شغل ذهن الباحثين، وتعدّدت فيه الاجتهادات والنظريات القديمة والحديثة والمعاصرة منذ بواكير البشرية المفكرة حتى اليوم، هو كيف نشأت هذه العلاقة وهي تؤرّخ في حقيقتها إلى ولادة اللغة؟ بشكلٍ عام قد يمكن القول بوجود اتجاهين في نظرية التفسير، يذهب الأول إلى ذاتية الدلالة وأنها نابعة من طبيعة اللفظ وأنه يدل ذاتياً على معناه، كما تنشأ علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار نفسها. على حين يفسّر الاتجاه الثاني هذه النسبة أو العلاقة بين اللفظ والمعنى، بإعادتها إلى الواضع الأوّل للغة وأوائل من تكلّم بها، في ما ذهبوا إليه من «تخصيص» ألفاظ خاصة لمعانٍ بعينها، عبر ما يُعرف بالاصطلاح بعملية «الوضع»، فصار اللفظ بفعل الواضع «موضوعاً» والمعنى «موضوعاً له» (المعالم، ص 142ـ 143).

ما ذهب إليه السيد الصدر أن علاقة السببية بين اللفظ والمعنى، تنبثق على أساس قانون عام من قوانين الذهن البشري، والعملية برمَّتها ليست اعتباطية بل ترجع في التحليل الأخير، إلى قوانين تكوينية في الوجود والإنسان.

القوانين التكوينية الثلاثة

أول هذه القوانين التي غرسها الله سبحانه بأصل الجبلّة والتكوين الإنساني؛ أن الإحساس بالشيء يدفع الذهن ويكون سبباً في انتقاله إلى صورته، ليكون الانتقال الذهني إلى الشيء استجابة طبيعية للإحساس به، كما يفضي مثلاً الإحساس بالأسد إلى تصوّر معنى الحيوان المفترس.

أما القانون التكويني الآخر المترتّب على الأوّل والمكمّل له في بناء نظرية الصدر عن اللغة، فهو يفيد انتقال الذهن من شبيه الشيء إلى الشيء نفسه، كما لو رأى الإنسان صورة أسد على ورق أو قماش فينتقل إلى معناه؛ أي إلى الأسد الحقيقي نفسه.

القانون التكويني الثالث والأخير المترتّب على القانون الأوّل أيضاً، هو انتقال الذهن من قرين الشيء إلى الشيء نفسه بوجود خصوصية، كما يحصل مثلاً في تكرّر صوت الأسد (زئيره) إذ يفضي تكرر هذا الاقتران الخاص وتأكّده، إلى انتقال الذهن من هذا القرين (الصوت، الزئير) إلى الشيء نفسه، أي إلى الأسد، مع ضرورة الانتباه لفهم هذا القانون وتميّزه عمّا سبقه، إلى أن الصوت ليس هو الأسد، كما أنه ليس شبيه الأسد.

انطباع صورة الشيء في الذهن، والانتقال من شبيه الشيء إلى الشيء، ومن قرين الشيء إلى الشيء نفسه، هي أمور وجدانية لدى الإنسان لا تحتاج إلى دليل، تعبّر عن قوانين تكوينية ثلاثة في الوجود الإنساني؛ إليها تعود نشأة اللغة. فاللغة في نهاية المطاف هي كلمات وألفاظ، ولدت بذورها الأولى بفعل القانون الأوّل (قانون الانطباع) ثمّ اتسعت رقعتها بالفاعلية الاستعمالية للقانونين الثاني (المشابهة) والثالث (القرن الأكيد) عبر عملية تدرّج، تهيأ من خلالها الذهن البشري عبر تراكمات قانون المقارنة وانتقال الذهن من المقارن إلى المقارن، علاوة على قانون انتقاله من الشبيه إلى الشبيه.

هكذا ولدت ظاهرة اللغة وراحت تتوسّع من صيغ بدائية محدودة، إلى صيغ متكاملة أكثر شمولاً واستيعاباً للألفاظ والمعاني (مباحث الدليل اللفظي، ج 1، ص 82).

بهذا تغدو العلاقة بين اللفظ والمعنى أو الدال والمدلول سببية وليست اعتبارية أو اعتباطية، كما ذهب إليه منظّر اللسانية الحديثة فردينان دي سوسور، بل هي سببية واقعية، لأن الواضع يمارس: «عملية الإقران بين اللفظ والمعنى بشكلٍ أكيد بالغ» بحسب تعبير الصدر، وهو ما أدّى إلى اشتهار النظرية، باسم أو عنوان: «القرن الأكيد» (تُنظر التفاصيل في المصدر السابق، وهو تقرير لمباحث الصدر الأصولية في الدليل اللفظي، بقلم تلميذه محمود الهاشمي).

الأفق المقارن

لدراسات اللغة في تراث المسلمين الفكري جذور عميقة، فضلاً عمّا تحمله من خصوبة وثراء، وكذا الحال بشأن اللسانيات الحديثة والمعاصرة التي تناولت الظاهرة اللغوية.

من الأقدمين ارتبط النهج البياني بالجاحظ (ت: 255هـ) واشتهرت نظريته عن الدلالات الخمس، كما أمامنا مدرسة النظم للجرجاني (ت: 471هـ) وقد تحدّث عن ضرب من الهندسة العقلية تتوحد الدلالات والنظم؛ كما هناك السكاكي (ت: 626هـ) صاحب نظرية الشجرة الكاملة ومُنشئ مصطلح «خزانة الصور» وأن النفس أو العقل الإنساني يختزن الصور ويخرجها دلالات وتراكيب وألفاظ عند الحاجة؛ وكذلك ما ذهب إليه ابن خلدون (ت: 808هـ) من تفسير اللغة على أساس نظريته في العمران، لتغدو اللغة جزءاً من العمران، تترقى برقيه وقد تقلبت في أطوار خمسة.

بالانتقال إلى العصر الحديث فقد عدّوا صاحب كتاب «علم اللغة العام» دي سوسور (ت: 1913م) مؤسّس اللسانيات الحديثة، باتجاهها البنيوي وتوزيعاته الرئيسة الثلاث، التي جاءت من بعده؛ الوظيفية والنسقية والتوزيعية (يُلحظ أن أهمّ ترجمة وأكثرها دقة ووثوقاً لكتابه، هي للعراقي د. يوئيل يوسف عزيز، الصادرة عن مجلة آفاق عربية).

ارتبط الاتجاه النسقي بعالم اللغة الدانماركي لويس يمسلاف (ت: 1965م) والوظيفي بمدرسة براغ ومن أقطابها رومان ياكوبسن (ت: 1982م) وكذلك الفرنسي أندريه مارتيني (ت: 1999م) بالإضافة إلى التوزيعي الذي تزعمه في أمريكا ليونارد بلومفيلد (ت: 1949م) قبل أن تستقرّ آخر هذه النزعات التفسيرية والتنظيرية مع نعوم تشوموسكي والمدرسة التقليدية.

أسجّل على عجل وباختزال اعترف أنه مخل؛ أن الدراسات المقارنة مع الصدر لو تمت، ستكتشف نقاط لقاء وافتراق مع نظريات المسلمين واللسانيات المعاصرة على سواء. فنظرية الصدر شديدة القرب من السكاكي في خزانة الصور، تفترق تماماً مع دو سوسور في رفض الاعتباط بين اللفظ والمعني، تقترب إلى حدّ كبير مع تشوموسكي في ما ذهب إليه من وجود ذخيرة فطرية غير مكتسبة في تكوين الإنسان هي ملكته اللغوية؛ هي النواة الصلبة في بناء معرفتنا اللغوية.