ما الذي تغيّر في خطاباتنا الثقافيَّة؟

منصة 2024/04/08
...

صفاء ذياب


كلّما مرَّ عام منذ العام 2003 حتّى اليوم، نشهد انقلاباً جديداً في المفاهيم التي نسعى لتوثيقها في سبيل فهم ما حدث لنا قبل واحد وعشرين عاماً، هذه المدّة الزمنيّة التي جعلتنا نعيد فهم أنفسنا في كلِّ مرّة نستذكر فيها الزلزال الذي حدث، مع انتهاء نظام البعث الذي غيّر من بنية المجتمع العراقي إلى الدرجة التي جعل معها التفرقة بين قومياته وإثنياته أساساً في الفصل بينها في الدولة والمجتمع معاً. هذا الفصل الذي أوصلنا لتشكيل كيانات تدافع عن نفسها مقابل كيانات أخرى تعيش معها في بيت واحد وليس في بيوتات متفرّقة.

غير أنَّنا بعد هذه السنوات نشهد اختلافاً بيّناً ليس في بنيات هذا المجتمع، بل في خطابات المثقفين الذين كان بعضهم أساساً في الدفاع عن هذه التفرقة، في حين أسهم آخرون في الدفاع عن وحدة هذه المكوّنات التي تشكّل بمجملها مجتمعاً عُرِفَ منذ آلاف السنين بتنوّعه وتعدّد أطيافه.

وبعد واحد وعشرين عاماً، يمكننا أن نتساءل: ما الذي أحدثه زلزال 9/ 4 كحدث سياسي من تحوّلات ثقافية في العراق، وكيف نفهم الخطابات العديدة التي يقدّمها المثقفون في نصوصهم الأدبية والفكرية؟


خطابات متعدّدة

يؤكّد الدكتور محسن العويسي أنَّ انتهاء زمن الحزب الواحد والقائد الأوحد والثقافة المؤدلجة الواحدة أتى بتعدّدية فوضوية تسير بمسارات مختلفة ومتشعّبة، تلتقي أحياناً وتتقاطع في مناسبات أخرى، جعلت من المثقّف وخطابه نتاجاً خالصاً لبيئته المجتمعية والسياسية إلَّا ما ندر، وأصبح الخطاب الأدبي لدى المثقف يمرّ بمراحل ثلاث:

- الخطاب المحايد: وهو الخطاب الهادئ والعقلاني القائم على التحرّر من هيمنة أفكار الآخرين من دون المواجهة معهم، وهو الأقلّ حضوراً في المشهد الثقافي.

- الخطاب المضمر: وهو خطاب يحمل أبعاداً طائفية يستغلّه صاحبه في مناسبات خاصّة لتصلَ فكرته إلى جمهوره، وإن اتُّهِم بذلكَ تنصّلَّ سريعاً، عازياً السبب لعدم فهمهم ذلك.

- الخطاب المؤدلج: وهو خطاب لا لبسَ فيه، يطمح صاحبه للوصول إلى السلطة، أو التنعّم بخيراتها على حساب الثقافة.

أمَّا المعالجة، فهي تحتاج اتفاقاً بين المثقف والسلطة، وهذا الأمر بعيد جدّاً عن الطرفين، فالمثقف مهما اقتربت السلطة منه فإنَّه يرى نفسه مهمّشاً منها، وغريباً عنها، وأنَّها بحاجته دائماً؛ لأنَّه الأكثر وعياً ومعرفة، أمَّا السلطة فتتوجّس من المثقّف وتراه متعالياً عليها، يشعرها بالنقص المعرفيّ، وهذه العلاقة المتوجّسة أقرب للتنافر منها للتجاذب، لذلك فالمعالجة أشبه بالمستحيل بينهما.

لذلك، على المثقف أن يأخذ دوره مستغلاً الحرّية الفكرية المناطة له وحرّية التعبير، والنجاحات التي حقّقها في مجالات الإبداع الأدبي كالشعر والقصة والرواية والنقد والمسرح ومختلف الدراسات الأخرى.

من الـ(أنا) إلى الـ(نحن)

ويبيّن الدكتور حسن جميل الوهامي أنَّ المتتبّع للخطاب العراقي يقف إزاء تاريخ مفصلي أسهم في تحديد بنية الخطاب وتحوّل مضمونه من الترويج للسلطة بوصفها الـ(أنا) المطلق إلى الـ(نحن) السلطات المتعدّدة. تخلّلهما خطاب متنامٍ (خطاب المقموعين) اتخذ صفة المعارضة مع خطاب الأنا المطلق، ذلك الخطاب الذي أعلن عن نفسه بشكل صريح خارج حدود المديات الخطابية للسلطة وبعيداً عن أذرعها، فاتخذ المنافي منصّة إعلامية له للإعلان عن خطابه الداعي إلى الثورة باسم الحرية، يُستثنى من ذلك بعض الخطابات المُرمّزة التي أُنتجت داخل الدائرة السلطوية، اتخذت من البلاغة الدينية وإحياء الموروث الذي تقتضيه الشريعة الإسلامية من مجاهدة الظالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلاً عن بعض الخطابات الفرديّة هنا وهناك حملت طابع الثقافة المدنيّة والعلمانيّة التي انتهت بأصحابها إلى زنازين مظلمة كانت بارعة في إسكات ذلك الخطاب إلى حدٍّ كبير.

ويضيف: ولعلَّ أبرز التحوّلات الخطابية في الساحة الثقافية العراقية بعد العام 2003 هو ذلك الخطاب المتنامي (خطاب الجمهور) الذي امتلك ناصية الخطاب بعد أن أعلن عن ذاته وأصبح الفاعل الرئيس في تحديد هويّة السلطات المتعددة.

إلَّا أنَّ أبرز ما يُخشى عليه في الوقت الراهن في ظلِّ الانفتاح الخارجي والإيمان بحرّية التعبير هو تشظّي ذلك الخطاب وأدلجته بفعل الولاءات الحزبية أو الانتماء الطائفي والمناطقي والعشائري، من أجل تعليب العقول والتلاعب بها وتحديد مسارها الفكري ومن ثمَّ قهقرتها من تمجيد الشخصية الواحدة (القائد المُلهم) إلى تمجيد الشخصيات أو السلطات المتعدّدة، الذي قد يصل حدَّ التقاطع والتضاد. لذا على المتحكّم بناصية الخطاب ومن يملك أدواته البلاغية أن يضمِّن مفاهيمه الخطابية بوحدات لغوية تدعو إلى تقبُّل الرأي الآخر بدلاً من التصادم الثقافي والصراع الخطابي. 

توازي الإزاحات

من جهته، يشير الدكتور رشيد هارون إلى أنّه لابدَّ من استحضار ما قبل 9/4 لفهم ما نزعم أنَّها تحوّلات ثقافية في المعالجة والخطاب بعده، فقد كانت الكتابة حاجة وضرورة نفسية للتوازن من أجل البقاء على قيد التعقّل إذا ما استثنينا الكتابات التعبويّة التي طبّلت وسط ذلك الجو الحربي الحصاري الإزاحي التضييقي الواحدي، فأنتج (الماقبل) شكلين، أدب سلطة؛ وأدب حياة أفراد عبّر عن جماعة، فكان أدباً ممثّلاً للمهمّش المُحيّد المقموع معالجات وخطاباً مرمّزاً لاسيّما بعد الانتفاضة وتنامى ترميزاً وجرأة وتصريحاً قبيل 9/4.

بعد الزلزال لم يرضَ الطبّالون بالتغيير أزال نعمهم، ولم يقتنع أديب الحياة لم يكن من صنيعة يده فضاعت الرؤية الثقافية للمستقبل التي أسهم في ضياعها السياسيّون الذين لا يمتلكون رؤية سياسية واقتصادية فلم ينجح هذا الثالوث في استثمار الفرصة وملاحظة العلاقة القويّة بين السياسة والاقتصاد والثقافة، وإنَّ أيَّ عطب يصيب أحدها يصيب الآخرينِ منهما والعكس صحيح، فلم تنفكَّ الأطراف جميعها من أثر صدمة التغيير الخارجي، أثر الصدمة تحوّل إلى تراكم لفظي وليس إلى تراكم ومعالجات فكرية للواقع الذي كلّما ابتعد عن 9/4 ازداد ارتباكاً على صعيد الثقافة خاصة التي بدأت تذوب بآلية التفكير الجمعي والفعّاليات الثقافية العامة التي لم تبنَ على رؤى لتصبح ندّاً فمغيّراً للواقع السياسي الذي لم يجد بالواقع الثقافي ما يجعل منه سلطة مؤثّرة في سياسته التي لم نجد صدى واضحاً لنجاحه في أبسط مفاصل الخدمات الضرورية للحياة، لذا فإنَّ التحوّلات الثقافية في المعالجات الفكرية والفنية لم ترتقِ إلى سمة التحوّل بدلالته الكبرى المعروفة.

أسئلة التحوّلات

وبحسب الروائي شهيد، فبما أنَّ قيمة الأدائيات الوجودية بتصنيفاتها كلّها سواء النظرية منها أو العملية تتحدّد بالنتائج فإنَّ الإجابة على هذا السؤال تتطلّب منَّا الذهاب مباشرة إلى الطرف الاخير من المعادلة وهو “المعالجات” بعد أن يتمَّ ‏اختيار “وحدة قياس” تساعدنا في الوصول إلى القناعة النهائية بخصوص الموضوع.. وحدة القياس هنا هي “الواقع” الذي نعيش فيه.. ظاهريّات التحوّلات الثقافية التي نبحث عنها ستتضح من خلال نظرة تمتد من 9/4 إلى يومنا هذا.. طبيعة الواقع الممتد ما بين هذين الزمنين هي الكفيلة بكشف الصورة المستفهم عنها إذا ما تمّت دراستها بطريقة دقيقة بحثاً عن التغيّرات التي طرأت على الكائن الوجودي الحيوي المتمثّل بالإنسان، هذه الدراسة تتطلّب استحضار حزمة من الأسئلة الخاصة بما بين الزمنين من فوارق للقطع بمسألة تحقّق التحوّلات من عدمه والمقارنة بين “الجسد الثقافي” ما قبل التغيير والجسد الثقافي ما بعد التغيير.. هل يمكن القول إنَّ ذلك الجسد كان عليلاً في مرحلة ما قبل التغيير ثمَّ تمكّن من استعادة عافيته بعد التغيير؟ هل كان منحازاً للسلطة على حساب الشعب قبل التغيير ثمَّ صار ثائراً ضدَّ السلطة بعد التغيير؟ هل تمكّن من تكوين “صوت” خاص به ليعوّض سنوات الصمت والخوف؟ هل نجح في خلق حالة مقاربة مع الوعي الشعبي أو بقي في برجه العاجي؟

“بالنسبة لي سأضع أمام هذه التساؤلات إجابة: كلَّا.

الخدعة الكبرى

ويكشف المسرحي علي عبد النبي الزيدي عن أنَّ المشهد السياسي ما بعد 2003 مارس خدعته الكبرى حول مستقبل ذهبي قادم، التي صدَّقها في السنوات الأولى أغلب النخب الثقافية في العراق، وراح الكثير منهم يؤازر في طروحاته، أو يتناغم مع الواقع السياسي الجديد الحامل للواء الديمقراطية بوصفها خطاباً ناصع البياض وورقة مهمّة وقادرة على خداع المشهد الثقافي العراقي، وراح أيضاً يؤكّد أنَّ 2003 هي مرحلة التحوّلات المذهبية لاسيّما لأبناء الجنوب والفرات الأوسط، وهم هنا يحاولون دغدغة مشاعر الناس بهذه الورقة الجديدة، إلَّا أنَّ المشكل راح الكثير من الأدباء والفنّانين في أعمالهم الأدبية والفنية يحايثون هذه الطروحات المُخادعة، وشكَّلت النصوص والأعمال الفنية توجّهاً مذهبياً صارخاً لسنوات، وهم هنا يمارسون الخدعة نفسها التي أطلقها ساسة ما بعد الاحتلال، فلم تكن عندهم وجهة نظر مختلفة، أو قادرة على قراءة الواقع السياسي الطائفي الذي اتضح فيما بعد، وشكّل انهياراً للقيم والأخلاق، وصار العقل السياسي مُنتجاً للدم والقتل في حرب شوارع بشعة، كانت شعارات الطائفية هي السائدة، وبالمقابل أيضاً فتحت أبواباً للمخيّلة والتفكير والوعي وقراءة الواقع قراءات جديدة من خلال العديد من الأعمال الروائية والنصوص المسرحية، فقضايا الإرهاب التي أنتجها الواقع السياسي ما بعد 2003 تحوّل إلى مادة مغرية للكتابة عنها، لكونها أثّرت في بنية المجتمع بشكل كبير، ومن هنا تحوَّل العراق إلى سوق للأحداث الغريبة التي دوَّن أحداثها إبداعياً، وهذا بالتأكيد أنتج لنا مشهداً ثقافياً إبداعياً مختلفاً عن العقود الزمنية كلّها منذ تأسيس الدولة العراقية، أجد في الكثير منه بالضدِّ ممَّا يحدث سياسياً.

المدوّنة العراقية

ويختتم الشاعر والمترجم حسين نهّابة حديثنا، مؤكّداً أن الانتفاضات والعواصف الثورية غالباً ما تحمل نكهات وأختاماً جديدة على المستويات كلّها، فيبرز منها جانب ويخفق آخر. كانت الفترة التي تلت العام 2003 ممتلئة بالمتناقضات، إذ استبشر العراقيون بعهد آخر مناقض لما عاشوه، فوجدوا أنفسهم أمام انقسامات طالت حتَّى أنفسهم، وبذلك بدأ المدّ والجزر في نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كلّها، إلّا ناحية واحدة ظلّت في سمو وارتفاع، وهو الميدان الثقافي الذي بقي محافظاً على تربيته الخاصة في أركان (العراق الخلّاق)، بل شرع في صعود غير طبيعي بعيداً عن النرجسية التي يحملها البعض في أحشائه. وبدأ الكتاب ينفتح على نفسه ويتناثر منتشراً في الدول العربية والغربية بعد أن كان محبوساً منذ تسعينيات القرن الماضي، فصار الكتاب العراقي، من خلال دور النشر، يحلّق في فضاءات معارض الكتاب العربية، ولمستُ في هذه المعارض أنَّ القارئ العربي متشوّق جدَّاً لرائحة الكتاب العراقي ولنكهته القديمة، لكنّه لم يدرك حجم الصراعات التي كانت تحتدم بين فئات بعض المثقّفين والكتّاب الذين اشتهوا فجأة أن يتصدّروا المشهد الثقافي العراقي ليكونوا (البطل المُنتظَر). أنا أومن بأنَّ مثل هذه الصراعات موجودة في الدول كافة، لكن بنسب متباينة. غير أنَّ غياب النظام بشكل جزئي، صعّد من حالات الريادة الثقافية التي بدأ يحلم بها الكثيرون من دون وازع شرعي عادل.