9 نيسان : حدُّ المقارنة الفاصل بين زمنين

منصة 2024/04/08
...

سعد العبيدي 



كلما يتعرض إنسان هذا الوادي العراقي إلى صعوبة في العيش، أو بالمعنى المجازي، كلما مرت من فوقه غيمة ضغوط شديدة الوطأة، يعود إلى المقارنة بين الزمن الماضي الذي حكم فيه صدام حسين وحزب البعث، لثلاثة عقود ونصف، وبين هذا الزمن الحاضر الذي بدأ في 9/4/2003، وما زال مستمراً، ونتائج المقارنة بعد عشرين عاماً من هذا التاريخ تأتي في بعض الأحيان سلبية، ليست في صالح الزمن الحالي، وفي أحيان أخرى انفعالية تثير الترحم على الماضي من باب الغضب الموقفي، خاصة بالنسبة إلى جيل الشباب الذين لم يخبروا شكل الضغوط التي كانت مسلطة على عقول أهل العراق طوال سني الماضي، ولم يحسوا مشاعر الخوف التي كانت ترافق آباءهم ليلاً مع النهار، وللإنصاف في مجال المقارنة سوف نأخذ ظاهرتين سلبيتين، (الفساد والإخلال بالأمن) من بين عديد الظواهر التي يأخذ منها المواطنون سبيلاً لنقد الحاضر، ومقارنته المجردة بالماضي. 

إن الفساد الذي استشرى في جسم الدولة بالزمن الحاضر مستوىً، صار كأنه طبيعة من طباع الشخصية، أو ظل لإنسان هذا الوادي، يرافقه عند مراجعة الدوائر الحكومية وغير الحكومية، بعض معالمه، رشوة يدفعها لتمشية المعاملة المكتملة الأركان، وتفريقاً في التوظيف، فرصاً سهلة يحصل عليها أتباع الوزير، وأقارب المسؤول، والمنتمي إلى أحزاب متنفذة، يقابلها إهمال لغيرهم من باقي الأبناء، يُركَنون على رف الانتظار سنوات تزيد على الخمس، وأحياناً أكثر منها بكثير، وتمايز بين الأبناء في مجالات الترقية، والإيفاد، والدراسة على أساس الدين والقومية والمذهب، وأوجه أخرى للفساد، بينها استغلال المنصب للصالح الخاص، والإثراء غير المشروع، وغيرها من معالم فساد لا مجال إلى تسطيرها في مقال كهذا، لو تمت مقارنة حصولها والنشأة بين الزمنين، يتبين أن الفساد كان موجوداً في البيئة العراقية منذ قديم الزمان، حتى يشير الموروث الشعبي إلى أن ضغوطاً قد سلطت مرة على رئيس الوزراء الملكي نوري السعيد لتبديل بعض وزرائه لشبهات فساد، فرد في وقتها قائلاً دعوهم لقد شبعوا، ويقصد أن الجديد الذي سيأتي ربما سيسلك طريق الفساد كي يشبع، أما إذا اقتربنا إلى الزمن البعثي الموصوف بالزمن الماضي في مجال المقارنة، فسنجد أن الفساد قد شكل ظاهرة ملموسة بعد عام (1980) إبان الحرب العراقية الإيرانية، إذ شاع طوالها نقل المراتب من خطوط القتال الأمامية إلى الوحدات الخلفية لقاء ثمن، وشاع قيام جنود من العوائل الميسورة بتشييد بيوت لضباط آمرين، كي يبقوهم بعيدين عن خطوط الجبهة الأمامية، وشاع كذلك منح الإجازات بثمن مدفوع، وتكريم وزراء وموظفين من الدرجات الخاصة وأعضاء الشعب والفروع بأراض سكنية وزراعية، وسيارات ومبالغ مالية، وتفضيلهم على الغير، وشاع أيضاً، التفريق بين الأبناء في إسناد المناصب العسكرية، والأمنية، والسياسية العليا على أساس القومية، والطائفة، والمذهب، ما يدفع إلى الاستنتاج: 

أن الفساد في غالب أشكاله كان موجوداً في البيئة العراقية بمستويات تقل كلما عدنا بالماضي إلى الخلف سنوات وسنوات. 

وأن العديد من أشكاله طفت على السطح ظاهرة في الزمن السابق، وتبدو للمواطن ملموسة كلما اقتربنا من الزمن الحاضر سنوات، وانتقلت من ذاك الزمن إلى هذا، وزادت شدتها، وتعددت أشكالها، نتيجة جهل السلطة بطبيعة الشخصية العراقية، وفقدان المعرفة بسبل التعامل مع بعض الظواهر السلبية، ووهن السلطات الضابطة، وانشغال السياسيين الجدد في بناء أنفسهم وأحزابهم على حساب بناء الإنسان العراقي والدولة. 

وبالنسبة إلى الإخلال بالأمن كمجال للمقارنة، وظاهرة هي الأخرى عمّتْ أرجاء العراق، عشائر تمردت على الدولة، وأخرى امتلكت السلاح، وأعلنت عصيانها للدولة، وإرهاب ضرب جسم الدولة، وعصابات استشرت، ومليشيات توسعت، وسلاح غير مسيطر عليه ملأ أطراف المدينة وريفها والقرية، وإحساس بالتهديد على مستوى الفرد والجماعة...إلخ من معالم خلل أمني عند مقارنة وجودها في الزمن الحاضر مع حصولها في الزمن الماضي، وفي سياق المقارنة ذاته لزمنين، والرجوع في موضوعها إلى السنين الأولى لتأسيس الدولة، يتبين: 

أن العشائر العراقية، ومنذ البداية كانت بطبعها لم تهادن سلطات الدولة، وإن هادنتها لزاماً، ستكون المهادنة مؤقتة، مرهونة بما يمكن الحصول عليه من الدولة.

ويتبين أن العديد من أوجه التمرد العشائري بالضد من الدولة قد حصل في الزمن الملكي، والجمهوري الأول والثاني، وحتى في الزمن البعثي، وامتد من تلك الأزمنة المتتالية إلى هذا الزمن، مع فارق في مديات الإخلال بالأمن، تعتمد على قسوة، وحزم سلطات الدولة الضابطة، التي كانت في الزمن الماضي أكثر حزماً وقسوة وانضباطاً، وأصبحت في الزمن الحالي أكثر رحمة وتهاوناً وتسيباً.

ويتبين أيضاً أن الأمن الفردي، والمجتمعي كمجال للمقارنة، بات مختلاً في الزمن الحاضر، بما يفوق اختلاله في الزمن السابق، لكن العودة إلى الحروب التي حصلت طوال الزمن الماضي تؤكد أنها كانت مخلة بالأمن العام لسنوات شعر طوالها العموم من أبناء المجتمع العراقي بالخوف والقلق والتهديد بالموت، وبالعودة كذلك إلى الاستهداف الأمني والحزبي للمواطن، فقد كان إخلالاً بالأمن، إذ يقدم إلى المحاكمة ويعدم من روى طرفة يذكر فيها الرئيس، ويشاركه الإعدام من جالسه، وسمع الطرفة، ويعدم من وجه نقداً لشخص الرئيس، ومعه يعدم الشقيق، أو الصديق الذي لم يبلغ عن واقعة النقد، هذا غير التسلط الحزبي، وقطع الآذان لهاربين من الخدمة، وقطع الرقاب لمتهمات، وغيرها من مثيرات تهديد مخل بالأمن وضعت عموم المواطنين العراقيين تحت غيمة ضغوط أمنية شبه مستمرة، كبتت انفعالاتها المصاحبة في قعر الذاكرة الجمعية، ولم يعد يحس آلامها من عاش ذلك الزمن، ولم يحسها من ولد وعاش في هذا الزمن، الأمر الذي جعل المقارنة النفسية في مجالها وعموم المجالات بين الزمنين، غير صحيحة، وأحياناً منحازة، خاصة بالنسبة لمن ولدوا وترعرعوا في هذا الزمان، والذين يعانون أشكال تهديد أمني تختلف عن تلك التهديدات التي كانت شائعة في الزمن الماضي، ومنها وباقي مجالات المقارنة يصح القول: 

إن الإنسان في الزمنين هو المسؤول عن إنتاج السلوك السلبي فساداً كان، أو إخلالاً بالأمن، أو غيرهما.

وإن شكل إدارة الدولة والمجتمع وأخطاءها في الزمن السابق، قد تسببا في إيجاد عديد من الظواهر غير الصحيحة، وإن شكلها في هذا الزمن الحاضر، والأخطاء التي زادت عن حدود المعقول قد تسببت في تعزيز، واستمرار وجودها، واتساعها ظواهر سلبية.

ويصح القول أيضا: مع أن الزمن الحاضر هو نتاج الماضي، والمقارنة المنصفة بينهما لا يمكن أن تكون صحيحة إلا عبر وسائل البحث العلمي التي تحيّد وسطها المشاعر وتوجهات الانحياز، فإن التاسع من نيسان للعام المذكور سيبقى حداً فاصلاً بين زمنين، وستبقى المقارنة ماثلة في العقل الجمعي إلى حين.