هل يرسمُ الحراك الدرامي الراهن مساراً فنياً جديدا؟

منصة 2024/04/14
...

 رضا المحمداوي

انطلق الماراثون الدرامي العراقي هذا العام بطريقة لافتة للنظر، وانطوى الموسم الرمضاني نفسه على عناصر الدراما مثل الإثارة والتشويق، وتجاذبت أطرافه عدة جهات رسمية واختلفت الآراء ووجهات النظر بشأن تفسير المضامين التي يحملها، حتى أصبحت قضية الدراما قضية رأي عام، وهذا ما حصل فعلا مع مسلسل (عالم الست وهيبة-الجزء الثاني) لمؤلفه صباح عطوان، ومخرجه سامر حكمت،

حيث دخل بعض أعضاء مجلس النواب والوقف الشيعي وهيئة الإعلام والاتصالات على خط التقاطع والاختلاف بشأن بعض ما وَرَدَ في هذا المسلسل، قبل أن يدخل الأخير ساحة القضاء والمحاكم العراقية، ليتم منعه من العرض بقرار قضائي إثر الإشكالات الفنية والقانونية بين المؤلف والقناة المنتجة والشركة المنفذة للعمل، وبعد تسوية الخلاف بينهم تم رفع المنع عن المسلسل، ليعود الى الشاشة مرة أخرى. وقد تزامنتْ هذه القضية الفنية وتداعياتها القضائية مع زخم كبير وغزارة واضحة في عدد الأعمال الدرامية المنجزة هذا العام من قبل القنوات الفضائية المعروفة بإنتاجها الدرامي، وخاصة قناة (العراقية) التي أثبتتْ حضورها الفني من خلال إنجاز تسعة أعمال درامية جديدة،وقد وصلتْ الحصيلة النهائية للأعمال الدرامية العراقية المنجزة بمجموعها إلى 25 عملاً درامياً، الأمر الذي دفع بالدراما العراقية إلى أن تتصدر قائمة الدول الأكثر إنتاجاً جنباً الى جنب الدراما المصرية والسورية. وبنظرة نقدية موضوعية عامة يمكن الإشارة إلى أن حراكاً درامياً جدياً وجديداً، بدأ يؤسس لمساره في الوسط  الفني العراقي مع الأخذ بنظر الاعتبار موضوع الاختلاف والتباين والتفاوت في المستوى الفني للأعمال المنتجة، وربما بتنوع هذه النتاجات الدرامية واستمرار إنتاجها تستطيع الدراما العراقية، أن تترك بصمتها المتميزة لتفتح نافذة ًعلى الأسواق العربية والتسويق الخارجي وتضع حداً أو حلاً لمشكلة التسويق المزمنة التي تعاني منها منذ سنوات طويلة، وهو الأمر الذي غيَّبها ومنعها من الحضور في الأسواق وشاشات القنوات التلفزيونية العربية. 

ورغم الغزارة الإنتاجية الملحوظة التي وجدناها في هذا الموسم وتعدد القنوات المنتجة للأعمال الدرامية، ألاّ أنَّ هذا لا يمنع من تشخيص ظاهرة تبدو فيها الدراما العراقية قاصرة، ولم تبلغ سن الرشد وعمر النضوج حيث ما زالت الإستعانة بالطاقات والقدرات والعناوين الفنية العربية في إنتاج الأعمال العراقية قائمة وتشمل هذه الطاقات كافة عناصر إنتاج العمل الدرامي، مثل هندسة الصوت وإدارة التصوير والإضاءة والمكياج والموسيقى، وتمتد لتشمل حتى النص العراقي نفسه الذي بات يكتبهُ الكاتب المصري واللبناني، في حين يقوم المخرج الأردني أو السوري أو المصري أو اللبناني بإخراج تلك الأعمال العراقية!! في حين يعاني  بعض المخرجين العراقيين الجالسين على مصطبة الإحتياط  من البطالة والعطالة الإخراجية المزمنة، وأحسبُ أن مثل التعكز الفني لا يليق بالدراما العراقية وتاريخها العريق.  

 ومع أننا نشهد إرتفاعاً في نسبة إنجاز الأعمال الدرامية من قبل القنوات الفضائية، وزيادة ملحوظة في أعدادها وتنوع وتعدد في الأنواع الدرامية المُنتجة، إلاّ أنَّ البحث عن الدراما المتميزة أو التي يمكن  أنْ تؤسس لنمطٍ متطورٍ وناضجٍ يبقى هو الهاجس الأكبر لدى الجمهور العام  ولدى المتخصصين وأصحاب الشأن وكذلك في الصحافة الفنية.

وحتى فرضية (الكم) المتراكم الذي يقود إلى (النوع) المتميز والتي روَّجَ لها البعض من العاملين في الوسط الدرامي أو بعض المتابعين والمراقبين للمشهد الدرامي العراقي لمْ تحققْ هدفها الفني المنشود، ففي حين تتزايد أعداد الأعمال الدرامية المنجزة يبقى النوع الفني المتميز محدوداً جداً. وحتى نسبة النجاح الفني أو الجماهيري وإنتشاره شعبياً، أو توفر شروط ومستلزمات الجودة الدرامية، أو الحصول على درجات النضج الفني، أو أهمية وخطورة الموضوع المطروح في النص، أو القدرة الإخراجية والإمكانيات الفنية وغيرها من المعايير والأسس، لمْ تخضعْ لدينا لمعايير الجودة الدرامية أو مؤشرات التقييس والسيطرة الدرامية النوعية! بل اصبح خاضعاً لمزاج (الفيسبوك) والتعليقات والإعجابات الهوائية العابرة والعلاقات والإعلانات والترويج المُمّول والمدفوع الثمن مسبقاً بطرق واساليب مختلفة. ويعتمد كذلك على اسم القناة المنتجة ونسبة مشاهدتها وطريقة ترويجها وحضورها الجماهيري، فضلاً عن النوع الدرامي الذي سبق لها أن رسّختْهُ وتركتْهُ في ذاكرة جمهورها العام. وقد حَمَلَ هذا الضخ الدرامي المكثف بين طياته خطاباً فنياً جديداً، وأشار بكل تأكيد إلى تحوِّل كبير في المزاج الدرامي العراقي في الوقت الراهن، فقد غادرت الدراما العراقية الأجواء والبيئة الإجتماعية القديمة، التي باتتْ توصف اليوم، قياساً بالمواصفات الفنية السائدة حالياً، بأنها كانت بسيطة أو ساذجة أو حتى بريئة،حيث الموضوعات بطابعها الإجتماعي المألوف الذي عُرِفَتْ به سابقاً، وبدأتْ تنحدر تدريجياً نحو عوالم العنف والجريمة وعمليات القتل والإختطاف والتصفيات الجسدية ذات الطابع السياسي والاجتماعي، وهو الملمح الرئيس الذي يمكن تشخيصه والإشارة اليه من خلال الأعمال الدرامية التي شاهدناها على شاشة التلفزيون منذ عام 2003.

ومع توالي المواسم الدرامية السنوية إزدادتْ ظاهرة العنف رسوخاً في عالم الدراما العراقية حتى أصبح العنف موضوعاً رئيساً من الموضوعات الدرامية شبه الجاهزة، والتي غالباً ما يلجأ إليها المؤلف الدرامي سواء باختياره الشخصي أو بناءً على توصية أو استكتاب من قبل القناة الفضائية المنتجة.

 وبذلك كاد (العنف) أنْ يصبح  ظاهرة درامية – فنية  يلجأ اليها صانعو الدراما لدينا من المؤلفين والقنوات الفضائية المنتجة، لغرض التعبير عن رؤى وتوجهات ثقافية مهيمنة باتت تحكم قبضتها على المجتمع وتحرّك دفة مفاصله بصورة عامة في الوقت الراهن، فضلاً عما توفره أجواء العنف والقتل والمطاردات والعصابات من عناصر الإثارة والتشويق والشد الدرامي المطلوب في مثل هذا النوع الدرامي الجديد على عالم الدراما العراقية .

وبالتأكيد أنَّ هذه الظاهرة الإجتماعية وإنعكاساتها الدرامية لم تنشئ من الفراغ أو العدم، فقد شهد المجتمع العراقي وخلال حقب تاريخية متعددة تغييرات وتحوّلات وتبدلات كبيرة في بنيته الإجتماعية والثقافية ومنظومة قيمه وأخلاقه سلبتْ منه ومن أمنهِ المجتمعي، في المحصلة الأخيرة، تلك الدعة والطمأنينة والهدوء والسلام الداخلي ولذا أصبح العنف ظاهرة مجتمعية بامتياز عراقي، وشاعتْ أجواء الجريمة والقتل وعصابات المخدرات واستخدام السلاح المنلفت من قبضة الدولة القانون.   وطالما بقي المجتمع العراقي مأزوماً فإنَّ الدراما العراقية سوف تعكس هذا التأزم الإجتماعي في أعمالها مثلما نشاهد اليوم على شاشة التلفزيون حيث أصبح (العنف) و(الجريمة) ثيمة درامية وبوجوه وأقنعة  متعددة، وما زال المجتمع وبحركته وإفرازاته اليومية يشهد ويعيش أجواء عنف (الدراما الحياتية) التي يعيشها حيث تزهق الأرواح وتسيل الدماء، وتطفو جثث القتلى على سطح تلك الدراما بطابعها العنيف. وفي ظل هذه الأجواء الحياتية والدرامية معاً لا بُدَّ أن نفتقد الهدوء ليشيع التوتر و (العصابية) والشد وتتعالى الأصوات إلى حد الصراخ، ليكون الأداء الفني عموماً مشدوداً ومتوتراً، أما الرومانسية والهدوء والأريحية، فقد أصبحتْ (نوستالجيا) عراقية خالصة.