كيف غيَّرت قصص ألف ليلة وليلة حياة أهم رحالة عراقي؟
أحمد نجم
ليست الرحلة الشاقة التي استمرت نحو ست سنوات سيراً على الأقدام حتى الآن، هي الظاهرة الفريدة الوحيدة في تجربة الرحالة علي ثائر، فهو أيضا ثائرٌ في رحلته هذه على الحداثة ونمط حياتها الروتيني، خلف ظهره ترك متع الحياة التقليدية ووظيفته المرموقة في إحدى الشركات الأوروبية، وتخصصه في الهندسة المعمارية، وحمل على ظهره حقيبة متوسطة الحجم تضم احتياجاته الاساسية كرحال متجول، في رحلة تبدو وكأنه لا نهاية لها، يسير مثل راهب صوفي، وعلى رأسه عمامة بيضاء في رحلة اطلق عليها "من الرأس الى الرأس" باحثا عن السعادة والطمأنينة وأغراض إنسانية اخرى.
حين جلس الرحالة القادم من اقصى شمال النرويج وهو يعاني من آلام في المفاصل وإصابات متعددة، ليتحدث لــ(الصباح)، عن اسرار رحلته ومغامراتها يكون قد قطع نحو 31450 كيلو مترا منذ إن انطلق بتاريخ 26/ 4/ 2018 حيث وصل اخيرا الى بعقوبة مدينة طفولته ونشأته التي غادرها قبل أكثر من أربعة عقود، يمكث هنا لأيام قليلة، ليستعيد ذكرياته في المدينة ويتشافى من الزكام الذي اصيب به قبيل الوصول، ثم ينطلق مجددا في رحلته الى اقصى الجنوب الافريقي.
ألف ليلة وليلة
أحدثت اصابة شقيقته بالسرطان عام 2013 تغييرا كبيرا في حياة الرحالة علي ثائر التميمي "فبعد تشخيص اصابتها بسرطان الثدي، وصلت الى مرحلة من اليأس والتفكير بالموت" ، حينها فكر بطريقة بعيدة عن المألوف وقال لاخته "انتِ لا يقتلك السرطان بل طريقة تفكيرك"، ثم وجد الحل المناسب، حين استلهم من قصة ألف ليلة وليلة وحكايات شهرزاد لشهريار، التي حمتها من الموت المحتم بفعل التشويق القصصي في كل ليلة، ولكن من أين للمهندس المعماري ومدير المبيعات لشركة نمساوية متخصصة بصناعة الخزانات العملاقة، القصص المشوقة التي يعتقد انها ستساعد في شفاء شقيقته من السرطان؟.
يتحدث التميمي عن قراره ببدء رحلة مسير طويلة مستفيدا من طريق الحجاج الكاثوليك ليسير مسافة 3250 كيلو مترا من النمسا الى اقصى الشمال الغربي الاسباني لمدة 102 يوم، وكان اليوم الاخير للرحلة هو اليوم الأخير لنهاية العلاج الكيمياوي لشقيقته، في كل مساء حيث يتوقف عن السير، كان يتصل بشقيقته ليروي لها قصصه الشهرزادية المشوقة ويومياته وما يواجهه من مواقف ومغامرات.
في تلك الرحلة ومن على قمة جبل شاهق والافق المفتوح والسماء التي شعر انها قريبة منه وكانت قد اشتدت عليه آلام المفاصل، رسم الرحالة معالم رحلته الثانية اذ يقول "خاطبت الله ووعدته بالذهاب الى مكة مشيا على الأقدام، اذا شفيت أختي وانقذني من هذا المكان النائي".
من الحج الكاثوليكي إلى مكة
كانت الرحلة الثانية اطول من الأولى، إذ وصل الى مكة بعد اكتساب شقيقته للشفاء التام، وبعد مسيرة 10 أشهر خلال عام 2014 قاطعا 8670 كيلو مترا، وماراً بـ 12 دولة ويستذكر تلك التجربة "كان المشي على الاقدام الى مكة ممنوعا داخل السعودية، لذلك قررت قطع المسافة التي تفصل بين الامارات ومكة والبالغة نحو 2000 كم باتجاه عمان ثم الذهاب الى مكة بالطائرة".
بعد تلك الرحلة الروحية تغيرت علاقة التميمي بالحياة وروتينها ونشاطها اليومي المتكرر، "قررت تغيير حياتي بالكامل"، فقد انفصل عن زوجته وترك وظيفته كمدير مبيعات ودرس الترجمة بعمق وافتتح مكتبا للترجمة، لكنه اغلقه لاحقا بعد أن اصيب بالاكتئاب.
"عندما عرفت بإصابتي بالاكتئاب سألت نفسي وكانت الثلوج تحيط بي، ما الذي يسعدني؟ قلت إنه المشي".
وهكذا انطلق في الرحلة الاصعب والاطول في حياته والتجربة الفريدة التي قلما خاضها أحدٌ من البشر.
من الرأس الى الرأس
نجاح تجربته في مساعدة شقيقته للشفاء من السرطان حفزه للقيام بمهمة مماثلة مع مصابين اخرين، هذه المرة لدعم مستشفى معالجة الاطفال المصابين بالسرطان في تنزانيا البلد الواقع شرق افريقيا، فتقوم الجمعية الخيرية التي أسسها برفقة اثنين من زملائه بدفع رواتب المهرجين الذين يجرون زيارات يومية للمستشفى، بهدف الترفيه عن الاطفال وتقديم الدعم النفسي لهم، حيث كانت المستشفى عاجزة عن دفع رواتبهم.
رغم ذلك فهو لا يروج في صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي ومن خلال رحلته الحالية، لذلك على الأقل بشكل غير مباشر، ويقول عن السبب "لأنني لست مبشرا كما ان رواتب المهرجين السنوية ليس بالكبيرة، واستطيع توفيرها، لكن حينما يسالني أحدٌ ما عن الموضوع اخبره بموضوع الجمعية والدعم لأطفال تنزانيا".
في 25/ 4/ 2018 بدأ الرحلة الاطول والاهم بعد أن ودع عائلته وكتب وصيته وباع ما يملك ثم سافر الى نوردكاب (المدينة النرويجية الواقعة في اقصى شمال اوروبا)، حيث الثلوج المتراكمة لينطلق على اقدامه من هناك، حاملا خيمته على ظهره مثل صليب يقوده الى قدره، وينام في العراء مستمعا لصوت الطبيعة، ومتصالحا مع نفسه اقصى درجات التصالح مع الذات، وقاصدا الوصول الى اقصى جنوب افريقيا.
أطلق على الرحلة (From Kapp To Cape) اي من الرأس الى الرأس، مقتبسا العنوان من اسم مدينة الاطلاق في الشمال الاوربي نوركاب واسم مدينة ختام رحلته كيب تاون في جنوب افريقيا.
يدون التميمي المسافات التي يقطعها يوميا بدقة متناهية، اذ سار خلال السنوات الاربع 1160 يوما في ما خصص الايام الألف الاخرى للراحة والإقامة والتجوال في المدن وزيارة المتاحف والمعالم الاثرية، ويعني ذلك ان معدل ما يقطعه في ايام المشي الفعلية هو اكثر من 27 كيلو مترا يوميا، ويبين الرحالة بدقة مسيرته التي ابتدات كالتالي النرويج – الدنمارك – المانيا – هولندا – بلجيكا – فرنسا – اسبانيا – البرتغال – جبل طارق – المغرب ثم النمسا، التي وصلها عبر الطائرة بسبب قيود التنقل، نتيجة انتشار وباء كورونا ثم من النمسا الى سلوفينا – ايطاليا والفاتيكان وسان مارينو – كرواتيا – البوسنة – جبل الاسود – البانيا – اليونان ومالطا – تركيا – قبرص – العراق.
"الخطر من نفسي"
قضى الرحالة اصعب ايامه في المغرب عام 2020 حيث تزامن وجوده في الشمال الافريقي مع انتشار وباء كورونا واغلاق المدن، اضطر التميمي في أحد الايام لقطع مسافة 95 كيلو مترا، حيث كان مضطرا للوصول الى المطار المحدد للمغادرة، الذي سمح بمغادرة المقيمين بالمغرب خلال مدة زمنية قصيرة، كما انه قضى في ايطاليا اطول مدة زمنية من الدول الأخرى، اذ تزامن وجوده هناك مع عودة انتشار الموجة الثانية من الوباء، واضطراره للمسير بين اطراف المدن، خلال تلك المدة اتقن اللغة الايطالية بشكل كامل، لتكون رابع اللغات التي يجيدها بطلاقة بعد الالمانية والعربية والانكليزية ولغتين أخريين بطلاقة أقل، هما الفرنسية والاسبانية.
بالنسبة لرجل زاهد مثله ومتصالح مع نفسه ومع الطبيعة، فلا يتحدث كثيرا عن مخاطر واجهته في تلك الرحلة الفريدة "أخطر ما واجهته في الرحلة هو نفسي"، ويستذكر مشاهدته لقطيع من الدببة في النرويج، لكنها لم تتعرض له بسوء يقول انها "لا تهاجم الانسان الا عند الجوع"، لكنه هوجم من مواطن الماني عنصري عندما تسلق اللوحة الارشادية في مدخل برلين، وأراد أن ينال منه بالضرب وسأله "هل احتليت برلين؟.
متمردٌ على العمران
يتجول في بعقوبة الآن ولكنه لا يشعر بأنها مدينة طفولته بسبب التغييرات الكبيرة وتوسع المدينة، بالاضافة لغياب النظام وسيادة الفوضى كما يقول، كان التميمي قد ولد في المانيا عام 1965 لأب عراقي وأم ألمانية، ثم عاش 11 سنة من طفولته في بعقوبة قبل ان يغادرها عام 1979 الى النمسا، التي اكمل فيها بقية حياته ودرس فيها الهندسة المعمارية.
كمهندس معماري فانه يتعامل كثيرا في مجال تخصصه مع الابنية والكتل الكونكريتية المكونة لها، لكنه اليوم متمردٌ ضد ذلك، اذ يرى ان ما يقتلنا كبشر هي هذه الغرف والكراسي وانقطاع علاقتنا مع الخارج، اي مع الطبيعة والفضاء "اصغر غرفة عايشين بيها هي هذه" ويشير الى هاتفه.
يوميات الرحالة
في حقيبته ثمة حاجات اساسية فقط، خيمة وكيس للنوم وسرير هواء قابل للنفخ والطي، وعدة قطع من الملابس وضمادات لحالات الطوارئ وشاحن هاتف متنقل، جرب النوم داخل خيمته في الثلوج والسهول والجبال والصحارى اما عندما يصل الى المدن فانه يستخدم الفنادق.
يبدأ يومه كرحالة متأخرا اذ يستيقظ بعد الثامنة والنصف ويبدأ السير في الساعة العاشرة، بعد ان يجمع معداته داخل الحقيبة وينطلق بحثا عن اقرب مقهى او منزل على الطريق لشرب الشاي، اما وجبتا الافطار والغداء فلا وجود لهما في منهاجه اذ يكتفي بالعشاء كوجبة وحيدة يوميا، ويعلل ذلك لاسباب صحية، كما أن الأكل يجعله يشعر بالنعاس ويعيق خططه للمشي.
مساره اليومي الطويل الذي يقضيه وحيدا، وأحيانا لا يرى فيه أحدًا الا نادرا يستمع فيه الى صوتين اثنين "صوت الطبيعة، الذي يمثل لي سيمفونية أجمل من أي موسيقى أخرى، وصوتي الداخلي أي صوت النفس والضمير، فالحياة الصاخبة في المدن نسمع فيها أصواتا كثيرة باستثناء أصواتنا الداخلية"، ويضيف "في هذه الرحلة اكتشفت نفسي وعرفتها، وانعكس ذلك على علاقتي مع العالم".
يموّل التميمي نفسه من خلال طباعة الصور التي يلتقطها خلال رحلته واضافتها الى تقاويم سنوية ويبيعها لمتابعيه عبر التواصل الاجتماعي، فالتصوير هو هوايته الثانية بعد المشي.
عندما يغادر رحالتنا العراقي بعقوبة ويدخل بغداد، سينزل جنوبا الى البصرة ثم يعود الى النجف وكربلاء والانبار، ومنها الى الأردن فمصر، حتى يصل الى جنوب افريقيا في ختام الرحلة، ويتوقع ان تكون المسافة المتبقية بحدود 25 الف كيلو متر، لكنه لا ينشغل كثيرا بمحطاته القادمة في هذه الرحلة ولا ما بعده، فالسعادة عنده " ليست في الوصول الى النهاية بل في الطريق نفسه".
اصبح علي ثائر اول رحالة يقطع الطريق من اقصى الشمال الاوربي الى اقصى الغرب الأوروبي، مشيا على الأقدام وأول رحالة يصل الى بغداد مشيا قادما من شمال أوروبا، ورغم انه يؤكد عدم اكتراثه لهذه الأرقام، فالدافع الشخصي المتمثل بسعادته ورغبته في مساعدة الاطفال المصابين بالسرطان، يكمن وراء هذه الرحلة، التي يقول إن أثمن ما تعلمه فيها هو "حب البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم وأشكالهم وتعلمت فهمهم والإصغاء اليهم".