متاهة المحو

منصة 2024/04/15
...

 حبيب السامر
مرَّ أكثر من شهر، وهو على هذه الحالة، يذهب في أوقات متفاوتة إلى ساحة (أم البروم) وسط مدينة البصرة بعد أن يتأمل الدرابين الضيقة في منطقة البجاري، يجلس قليلا في المقهى المحصور بين جدارين، يمر قليلا في مكتبة القبة ليتبادل الحديث مع "اللايذ" وهو يحدق في جهاز الحاسوب ليجد بعض أصدقائه وهم ينظرون في كتب مهداة أودعوها في المكتبة، يقف قرب محال صغيرة للموبايلات ليصل إلى مكتبة ناصر، يهمّ بعبور الشارع العريض، ليسلك شارعا فرعيا مقابل مرأب السيارات، مستذكرا والحسرة تخنقه سينما الكرنك التي يقال إنّها أخذت هذا الاسم بعد أن كانت تسمى سينما الحمراء القديمة الشتوي التي أسست عام 1931 وهي تعد أول دار سينما في البصرة، كما ترجح المصادر ذلك، والتي تحولت فيما بعد إلى الكرنك. قادته ذكرياته إلى عدد كبير من دور السينما في البصرة التي توزعت بحسب مواقعها الجغرافيّة ومنها: الفيصليَّة قرب ملعب الجمهوريَّة، بورت كلوب وسينما الميناء الصيفي والشتوي في المعقل، السيَّاب في مبنى المحافظة القديم، وهناك هوليوود (سينما غازي)، برودواي التي تقع خلف جامع البصرة الكبير وتحول اسمها إلى الرافدين، رويال بالقرب من سوق العطارين، الوطني الصيفي والشتوي، الرشيد، أطلس، هكذا وصلتنا في قراطيس بعض كتابنا ومؤرخينا.
في ساحة أم البروم تتعالى الأصوات وتتزاحم حشود الناس المجتمعين تحت سقائف باصات المصلحة وهي تقلهم إلى مناطقهم، سائق الباص الأحمر يتناول وجبة سريعة من صاحب محل صغير يقع في زاوية الرصيف الطويل، وبوقت محدد تنطلق الباصات تباعا، يمر جابي المصلحة ببدلته الأنيقة وحقيبته الجلدية التي تتدلى على جانبه، ليقوم باستيفاء مبالغ الرحلة الداخلية من خلال منحهم بطاقات صغيرة، يقوم بقطعها أو شقها لإبطالها.
تتناسق تلك الباصات في الساحة وهي تجاور حديقة الشعب الواسعة وبمحاذاة دائرة بريد البصرة، وعبر الشارع بمقربة من شارع فرعي آخر تنتصب سينما الكرنك وهي تشهد زحمة واسعة لمشاهدة برنامج عرضها، من خلال عرض لقطات من فيلمها الذي يعرض حالياً (هذا في زمن مضى)، وهناك إشارات واضحة وبعض لقطات مغرية للفيلم المقبل، كانت وقتها تعرض الفيلم الهندي (الأم) الذي ذرف مشاهدوه دموعا كثيرة، وأثر في الكثيرين وهم يخرجون بعيون متورّمة وحسرات لا تنقطع، في حين يظل نصب العامل الذي صممه ونفذه الفنان عبدالرضا بتور شاهدا على هذه المدينة، ويزداد المكان ألفة بالناس والشواهد المحفورة في قلوبهم والأيقونات الخالدة في دواخلهم، ويعبِّر راي برادبري عن ذلك بقوله: "انظر إلى العالم. إنه أكثر روعة من أي حلم". فعلا، هذا المكان دليل محبة لجميع البصريين والوافدين من مدن أخرى من جميع أرجاء العالم، يتطلعون إلى رؤية مراكز المدن وصالات السينما والقاعات الفنيّة والثقافيّة ورموز المدينة وشواهد العصر فيها.
تعتمد إدارات دور السينما وسائل عديدة للإعلان عن أفلامها التي تتنافس بينها لكثرتها في البصرة، سينما الحمراء، الرشيد، أطلس ....!
تلك بعض ومضات ساكنة في قلوب أبناء المدينة الذين عاصروا دور السينما في البصرة، وكانوا حريصين على متابعة عروضها المتنوعة وفق برامج معلنة على واجهاتها الزجاجيّة على طريقة عرض صور ولقطات من تلك الأفلام لتجذب إدارات صالات العرض جمهورها المواظب على حضور العروض المميزة، وتدور بعد ذلك النقاشات الفنية الهادئة لتلك العروض بين المتابعين الحريصين على فهم ثيمة الفيلم وجوانبه الفنية الأخرى.