كوكب حمزة : ألحانٌ قلبت موازين الغناء

منصة 2024/04/16
...

 سعد صاحب 

كوكب حمزة الكردي الفيلي، اليساري، ابن مدينة القاسم المعروفة بأجوائها الدينية المدهشة، التابعة لمحافظة بابل العريقة، المتنقل بين بغداد والبصرة لأسباب تخص العمل والإبداع، والهموم الإنسانية والانتماء ومواكبة الجديد، وهذه التركيبة الغريبة من المتناقضات، منحته العنفوان والقوة والصبر والإصرار والتحدي، والبحث الدؤوب عن القيم الجمالية الراقية.

المستفيد من الاجواء العاشورائية ومن قراء المنبر الحسيني، الصاغي بكل أحساسه المرهف إلى أعذب الاصوات والمقامات والألحان، والتراكيب النغمية المتمردة على السائد الممل العقيم، والمكتشف لأنغام عظيمة في تلك الردات المعجونة، بالثورة والبكاء والانتقاد والشجن والفضيلة والغضب، المكتوبة من قبل شعراء عفويين، لكنهم لا يقلون شأنا عن المفكرين الكبار. 

المثقف المطلع على الشعر والرواية والسينما والفن التشكيلي والنحت والعمارة، خريج معهد الفنون الجميلة المختص بآلة (الفلوت) الهوائية، المتعلم العود بالاعتماد على قدراته الذاتية، التواق للولوج إلى عالم الالحان المليء بالأسرار والغموض والسمو والعواطف والحب والترقب والإثارة والتنافس الشريف، وحينما بدا التلحين بشكل فعلي، كانت الحانه مزيجا من الموسيقى العراقية والكردية والعربية والعالمية الجديدة، ومن ميزاتها التوازن والرشاقة وتكوين الجمل الموسيقية الواضحة، البسيطة والصعبة في آن واحد، البعيدة عن التنميق والفخامة المبالغ فيها. 


ثراء

كوكب ملحن أصيل تتصف موسيقاه بالثراء المعرفي العميق، وبالدنيوي الخالي من الاسفاف والمجانية والابتذال، وبالديني القريب من الزهد والتصوف والعرفان، بسبب النشأة الأولى ولا أحد ينكر تأثير تلك الاجواء الروحانية المفعمة بالإيمان على نتاجه الفني، وأغنية (بنادم) كلمات ذياب كزار وغناء حسين نعمة شاهد على ما نقول. وهو يمتاز بصنعة جيدة بكتابة الانشاء الموسيقي، وحرفة بصياغة مقدمات موسيقية هائلة شديدة التأثير بالناس، تصقل المشاعر وتطهر الروح وتهذب الاحساس وتزيد الرهافة والانطلاق، حين الاستماع اليها من قبل المعجبين. 


انتماء 

الطفولة الموزعة بين المزارات والمراقد والحناء والنذور، والمشاركة في المواكب الحسينية المحتشدة بالأبواق النحاسية والدفوف والصفير والطبول، والتربية العائلية المحكومة بالتقاليد والاعراف، والبيئة الزراعية والمناظر الجميلة ومختلف الأصوات المنبعثة من الاشجار والبساتين، ومناطق سكن الكرد الفيليين الشعبية وما يحملون من تراث حضاري قديم، والانتماء المبكر للحزب الشيوعي العراقي، ومجالسة الادباء والقراءة المستمرة، كل هذه الأمور مجتمعة عززت في داخله الجانب الانساني العريق، المتمثل بالانحياز إلى الفقراء والمساكين وحب الحياة والجمال، والنظرة التفاؤلية للمستقبل، والدفاع عن المظلومين من خلال الموسيقى، وهذا الالتصاق المبكر بالأجواء السياسية المضطربة، دفعه إلى تطوير نفسه، في الثقافة والفكر والفنون والمسرح ومختلف الأداب. 


ألحان عراقية 

أغلب الحاننا العراقية تعبر عن الحالة التي تتحدث عنها الكلمات، ومعظمها تحتوي على لأزمة لحنية تتكرر على طول المقاطع، هذا السائد الموجود في فترة الاربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أما مرحلة السبعينيات الذهبية الزاخرة بالتجديد، فأن الملحن أصبح يلحن كل مقطع بشكل منفرد، ومختلف عن السابق، ولم يكتف بالكلام المكرور الذي لا يتعدى حالة حب تمنعها العوائق، وراح يطلب من الشعراء كتابات تجسد العزلة و الاحباط  والخوف والحنين والفراق والالم والرحيل والاغتراب، أما التنقل ما بين المقامات والتلاعب بالأنغام، فقد صار سجية للملحنين القادمين من الجنوب والأماكن المقدسة، وهم طالب القره غولي  ومحسن فرحان، ومحمد جواد اموري، وجعفر الخفاف. 


شعر حديث

كان يحب الشعر الحديث الخارج عن السياق، خصوصا المتنوع الاوزان والقوافي والمواضيع، وبعد مداولات وجد ضالته الشعرية في شاعرين، الأول زهير الدجيلي الذي لحن له أجمل الأغنيات، على سيل المثال: «الطيور الطايرة، مكاتيب، هوى الناس». والشاعر الثاني ابو سرحان وقد قدم معه باقة  مميزة من الاغاني الرائعة، ومنها الكنطرة بعيدة، خيوه بت الديره، غناء سعدون جابر، واغنية «شوك الحمام» لفاضل عواد، و «تانيني التمسج تانيني» و «وين يل محبوب» اداء الفنان فؤاد سالم، و»حاصوده وبيدي المنجل» للفنانة مائدة نزهت، وفي مرحلة المنفى تعامل مع الشاعر رياض النعماني، وتمخضت هذه التجربة عن «بساتين البنفسج» و «يوم الما شوفك ما ريد عيوني».  


وجدان 

تذوق الموسيقى يحنن القلوب الملبدة بالهموم، ويجعل من الإنسان طريا مثل وردة رقيقة، سهل التفاهم مرنا أكثر من المطلوب، والألحان التي قدمها لنا الراحل تربطنا بذكريات قديمة، ما زالت عالقة في الوجدان، تسكن في العقل الباطن واللاشعور، والموهبة وحدها تقود المبدع للإصغاء إلى دواخل الروح الملأى بالانغام، والانتباه لكل ايقاع قادم من جهات مختلفة، وكأن هذه القلائد الغنائية الشبيهة بسبائك الذهب، تضع خطواتنا المرتبكة في المسار الصحيح، وتبعد عنا الاحقاد والكره والظلم والظغينة والعداء والضجيج الفارغ المريب. كوكب حتى سيرة حياته الملهمة للأجيال، عبارة عن لحن رائد يقاوم النسيان، ويعلن عن البقاء والفرادة بما ترك فينا من بصمات لا تزول بسهولة، والمخيال الشعبي يسعى لتحويل من يحب لأسطورة  خالدة، ويأطرها باطار اقرب إلى الخيال، سواء على مستوى المواقف والانجاز والمخاطرة، أو بما جادت به القريحة من ابتكارات، يوعزها البعض إلى الوحي والغيب وبعض التفاصيل الخرافية والإلهام. 


رقي 

كوكب صاحب حس جمالي سليم، والمستمع إلى ألحانه القليلة قياسا بمجايليه يشعر بالاشباع، والانفعال وتأجج العاطفة والهدوء والراحة والسكون، وفي مشواره اللحني الطويل الذي تجاوز الخمسين عاما، اكتفى بالموسيقى الغنائية المرافقة للمطرب عند الغناء، وقدم بعض المقطوعات الموسيقية المقتضبة. واعتقد أنه جرب تأليف الموسيقى التصويرية المصاحبة للمسلسلات والمسرحيات والأفلام، ولم يطرق باب الاوبرا الشحيحة أساسا عند العرب، وكل ما قدمه كان فنا راقيا خالصا لوجه الابداع، صاهرا الايقاعات الدينية والقومية والشعبية والفلكلورية والجنائزية في بوتقة واحدة، وكانت الحانه معبرة عن الواقع الاجتماعي للفرد المنكسر الحزين، وهي لا تخلو من الفرح ولو بنسبة ضئيلة ولا تثير الغرائز، وللأسف الشديد تترنح الآن الموسيقى العراقية العريقة، بين الرداءة والشهوات والرقص الخليع

والوضاعة.